في بدايات القرن العشرين كان يحكم فنزويلا ديكتاتور اسمه "كابريانو كاسترو"، وكان يحب اقتراض الأموال من المستثمرين الأجانب، لكنه لم يكن يحب ردها. كان ذلك خطأ كبيراً بالطبع وقد كلفه الكثير. ففي ديسمبر 1902 طالبته بريطانيا وإيطاليا وألمانيا بسداد الديون المستحقة لها. ولجعله يدرك أنهم يقصدون ما يقولونه، قامت سفنهم الحربية بقصف بعض القلاع الساحلية الفنزويلية وحاصرت عدة موانئ هناك. ولم تجد كاراكاس أمامها سوى أن تدفع الديون المستحقة عليها بالكامل. أما واشنطن فإنها حتى إذا لم تتمكن من رفع سقف الدين قبل حلول الثاني من أغسطس، وهو ما يمكن أن يعرضها لخطر العجز عن سداد الديون المستحقة عليها، فإن ذلك لن يجعل الكونجرس قلقاً من احتمال تعرض موانئ الولايات المتحدة للقصف من قبل أوروبا، أو الصين التي تشتري سندات الخزانة الأميركية حالياً. ومع ذلك، فعجز الولايات المتحدة عن سداد الديون المستحقة عليها سوف يلحق ضرراً كبيراً بصورة أميركا وبقدرتها على الإمساك بزمام السيطرة على العالم وإظهار قوتها في أرجائه. وفي أسوأ الأحوال، فإن واشنطن من خلال رفع تكلفة الاقتراض الحكومي، سوف تؤدي إلى تكثيف الضغوط الواقعة عليها والتي تدفعها لخفض الإنفاق الدفاعي، بينما تنخرط القوات المسلحة الأميركية في عمليات رئيسية في مختلف أنحاء العالم. كما أن ذلك الإخفاق سيجعل خصوم واشنطن يهللون للخطأ الذي لم تكن واشنطن مضطرة للوقوع فيه، وسيعتبرونه إثباتاً لصحة رواياتهم عن أفول القوة الأميركية. والآثار الدقيقة التي ستترتب على العجز عن سداد الديون الأميركية سوف تتوقف على الكيفية التي حدث بها ذلك العجز، والمدة الزمنية التي استغرقها. ثم هناك السؤال: ما هي التداعيات المحتمل حدوثها؟ وإجابته هي أن العجز المستديم عن الدفع يمكن أن يقوض القوة الأميركية بأربع طرق: الطريقة الأولى، والأكثر تأكيداً ربما، هي إجبار الحكومة على إجراء استقطاعات من النفقات العسكرية وهو ما سيؤدي بالطبع إلى زيادة تكلفة الاقتراض مستقبلاً خلال الفترة القادمة، لأن اجتذاب الدائنين مرة أخرى إلى مزادات وزارة الخزانة سوف يتطلب من الحكومة رفع أسعار الفائدة، الأمر الذي ستترتب عليه تريليونات الدولارات من الديون، نظراً لضخامة الأموال المتداولة. الطريقة الثانية: إن العجز عن سداد الديون سوف يزيد من الصعوبة التي تواجهها واشنطن في التفاوض على الاتفاقيات وبناء التحالفات مع دول أخرى. فالعواصم الأجنبية سوف تتوصل إلى خلاصة، وهي محقة في ذلك، مؤداها أن التفاوض مع الولايات المتحدة سوف لن يكون سوى إضاعة وقت. الطريقة الثالثة: إن العجز عن سداد الديون في مواعيدها سوف يؤدي إلى تآكل القوة الناعمة للولايات المتحدة. ولكي ندرك الأبعاد الكاملة لذلك علينا أن نتذكر أن سقوط مؤسسة "ليمان براذر" المالية العملاقة في عام 2008 زاد من درجة الشكوك المحيطة بالحكمة في استخدام النموذج الأميركي الاقتصادي. وستبذل روسيا والصين وغيرهما من "الأصدقاء الأعداء" للولايات المتحدة، ناهيك عن خصومها الصرحاء، قصاري جهدهم لمضاعفة الضرر الذي سيقع على الولايات المتحدة بسبب إخفاقها في سداد الدين إلى أقصى حد ممكن. فسوف يعيدون مرة أخرى الدعاوى التي ظلوا يكررونها لسنوات حول دخول الولايات المتحدة مرحلة الأفول، وحول نموذجهم السياسي والاقتصادي باعتباره النموذج الصاعد. وفي الماضي كانوا يكررون هذه الدعاوى دون أن يرفقوها بدليل، أما الآن فالدليل سوف يكون واضحاً أمام العالم بأسره. الطريقة الرابعة والأخيرة، هي أن عجز أميركا عن سداد الديون المستحقة عليها قد يؤدي لإعادة كتابة السياسية الخارجية الأميركية مجدداً لأنه سيؤدي إلى تلطيخ "الثقة الكاملة" بالحكومة الأميركية، ويمنح كبار المشترين للديون الأميركية الفرصة لإنجاز شيء كانوا يحاولون إنجازه من سنين، وهو إيجاد استثمار بديل غير الاستثمار في سندات الخزانة الأميركية. فما يحدث حالياً أنه عندما تكون هناك اضطرابات سياسية في الشرق الأوسط وتصاعد للتوتر في شبه القارة الهندية، فإن رؤوس الأموال الأجنبية تتدفق على الولايات المتحدة بحثاً عن ملاذ آمن لا يتوافر لها في بلدان أخرى. وعادة ما يؤدي هذا إلى خفض أسعار الفائدة وينشط الاقتصاد الأميركي. أما في الحالة العكسية، أي عندما يخرج رأس المال الأجنبي من الولايات المتحدة بسبب عدم قدرتها على سداد الديون المستحقة عليها وفقدانها عنصر الثقة الكاملة الذي كانت تتمتع به، فستجد نفسها في موقف مؤلم تتعجب فيه كيف أن أفعالها في الخارج تنعكس على أوضاعها في الداخل. صحيح أن الأسواق البديلة التي سوف يتجه إليها رأس المال الأجنبي الهارب من الولايات المتحدة، مثل منطقة اليورو، تعاني هي الأخرى من مشكلات مالية، وأنه لا يوجد بخلاف منطقة اليورو أسواق أخرى بالحجم والسيولة المطلوبة لجعلها جهة جاذبة للاستثمارات الخارجية وخدمة رأس المال العالمي. من السهل بالطبع التقليل من شأن الخطر الذي يمكن أن يترتب على عدم سداد الدين الأميركي، لكن الشيء المؤكد أن العجز عن ذلك سيطلق سلسلة من الأحداث ستجعل الولايات المتحدة تندم لفترة طويلة في المستقبل، ولن تكون قادرة على التعافي. وقد عبر عن ذلك رئيس مجلس النواب الأميركي جون بوهنر حين سئل ما يمكن حدوثه إذا ما عجزت الولايات المتحدة عن سداد ديونها، فكان رده: "لا أعرف في الحقيقة". وربما يكون من الأفضل للولايات المتحدة ألا تحاول أن تعرف! جيمس إم. ليندساي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مدير الدراسات في مجلس العلاقات الخارجية الأميركية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس"