درج العراقيون على تذكير الأميركيين في كل مرة تجري بينهم مباحثات، بأن تواجدهم في العراق مؤقت، فيما الدول المجاورة دائمة ومصالحها مستمرة. والحقيقة أنه يتعين على الأميركيين الانتباه إلى هذه الفكرة والإفادة منها في وقت يحتدم فيه الجدل بشأن الزيارة الأخيرة التي قام بها وزير الدفاع، ليون بانيتا، إلى بغداد، والتي من أهدفها التعبير عن انشغال أميركا بتصاعد النشاط الإيراني في العراق، واستهداف الجنود الأميركيين بأسلحة إيرانية، فضلًا عن بحث مستقبل القوات الأميركية، وما إذا كانت ستمكث لفترة أطول أم ستعود فوراً. فرغم الثقة التي ستمنحها القوات الأميركية المحدودة والصغيرة -في حال بقائها- للديمقراطية العراقية الهشة، إلا أنها لن تفيد كثيراً في تثبيت دعائم الاستقرار بعيد المدى، وذلك بالنظر إلى محدودية الإمكانات الأميركية في هذه المرحلة التي تواجه فيها الولايات المتحدة مخاض الأزمة الاقتصادية المستفحلة والحاجة إلى تقليص النفقات. لذا وفي سياق الظرفية الاقتصادية الصعبة يحتاج العراق إلى مساعدات إقليمية للتخفيف من الانخراط الأميركي، وهو ما يستدعي مراجعة الاستراتيجية الإقليمية التي تبدأ بطرح سؤال جوهري حول من هم جيران العراق الذين يشاطرون أميركا نفس المصلحة في رؤية عراق قوي يسهم في استقرار وأمن الشرق الأوسط؟ هنا تبرز تركيا باعتبارها الدولة المجاورة الوحيدة التي تملك من المحفزات والدوافع ما يؤهلها للعب دور كبير في رسم ملامح مستقبل العراق. ولا شك أن هذه الاستراتيجية الجديدة ستختلف عن سابقتها التي كانت فيها أميركا تدعو كلاً من إيران والسعودية وسوريا إلى الوعي بمصلحتهم في عدم انهيار العراق والعمل على الحؤول دون ذلك. لكن عدم الرغبة في انهيار العراق التي ربما تشترك فيها جميع دول الجوار، لا تعني حرص هذه الدول جميعاً على رؤية عراق قوي وناجح، وهو ما يُبرز أهمية تركيا المختلفة في مصلحتها عن الجميع. فسوريا غارقة في مشاكلها الداخلية، وهي تواجه موجة من الاحتجاجات الشعبية تهدد النظام، أو على الأقل قد تنتهي بإضعافه، وبالتالي ضرب قدرته على التأثير في محيطه الإقليمي. فيما السعودية مازالت متشككة في نتائج الديمقراطية العراقية وصعود قوى شيعية للهيمنة على الحكم، هذا فضلًا عما يعنيه رجوع العراق كمصدر أساسي للنفط بعد تأهيل قطاع الطاقة. أما عن الجانب الإيراني فقد كان العراق القوي على مر التاريخ سداً منيعاً ضد تغلغل النفوذ الفارسي في الخليج وعموم المنطقة، وحتى في الأزمة المعاصرة عندما صار العراق قوة عسكرية تقليدية تعرضت إيران بعد الثورة للغزو وتهددت مصالحها، والنتيجة أن إيران تريد عراقاً ضعيفاً ومقسماً بنظام سياسي طائفي يضمن صعود حكومات شيعية موالية. وإذا كان الجيران العرب ينظرون إلى العراق باعتباره البوابة الشرقية للخليج، وكونه لعب دوراً تاريخياً مهماً في صد النفوذ الإيراني، فإن مخاوفهم اليوم أكبر في ظل الاستقطاب الطائفي واحتمال تأثير ذلك على شؤونهم الداخلية، وهو ما يحول دون تعزيز العلاقات بين المحيط العربي وبين حكومة العراق التي لم تسعَ هي الأخرى إلى تبديد لونها الطائفي أو التخفيف منه... لكل هذه الاعتبارات تبقى تركيا الدولة الوحيدة التي تسعى إلى تكريس عراق قوي، فهي رغم مساعدتها المعلنة للكتلة السنية في العراق، وعدم رغبتها في إقصائها عن المشهد السياسي أو تهميش دورها، فإنها تحتفظ أيضاً بعلاقات جيدة مع القوى الشيعية وتُبقى تواصلها مع الأكراد. كما أنه من وجهة نظر أمنية، لا تضمر تركيا أي خوف من عراق قوي، إذ حتى بعد استعادته قوته العسكرية، لن يشكل ذلك أي تهديد للجيش التركي الأكثر تفوقاً. هذا بالإضافة إلى التوازن الذي سيحدثه عراق متماسك، سواء في علاقة تركيا بإيران أو بالأكراد على حدودها الجنوبية. أما على الصعيد الاقتصادي فلا ترى تركيا في العراق منافساً لمصالحها، لذا تقوم حالياً بالاستثمار في قطاعه النفطي وتطوير قدراته التصديرية لتلبية احتياجاتها من الطاقة ولتحقيق رؤيتها لنفسها كممر لنفط الشرق الأوسط إلى أوروبا، هذه النظرة تجعل من مصلحة تركيا استقرار العراق وقيام حكومة مركزية قوية تؤمن الاستثمارات وتدفق النفط. ومن هذا المنظور يبدو أن هناك توافقاً تاماً وتداخلا في المصالح الأميركية والتركية والعراقية في دعم الديمقراطية العراقية الهشة وتطوير القدرات النفطية لبلاد الرافدين، كي تبرز تركيا باعتبارها الشريك التجاري الأول للعراق. لكن ذلك لا يعني عدم وجود قضايا عالقة بين البلدين، مثل الانخراط التركي الفعال والنشط مع القوى السنية، ومطالب الحكومة العراقية بتأمين حصتها من مياه دجلة والفرات والتوقف عن بناء السدود عليهما. وهنا يتعين على الولايات المتحدة التدخل لتسوية الخلافات، أو على الأقل منع إثارتها في هذه المرحلة الدقيقة بالنسبة للعراق، طالما أن الأولوية هي لتكريس التعاون التركي العراقي. والإضافة إلى ضرورة تعزيز أميركا تعاونها مع العراق في شقيه العسكري والمدني، يتعين عليها أيضاً تسهيل التعاون التركي العراقي في مجال الطاقة. ومن الخطوات الأساسية التي يمكن للولايات المتحدة القيام بها تطمين الحكومة العراقية حيال الدعم التركي للسنة، فضلا عن مساعدة البلدين في التوصل إلى حل ينهي الخلاف المائي بينهما. هذه الخطوات لن تتطلب من واشنطن استثماراً مباشراً لمواردها الشحيحة، ولا تضحيات تراق فيها دماء جنودها، بل فقط التزاماً جاداً بإعادة صياغة استراتيجيتها والاعتراف بالدور التركي في تعزيز المصالح الأميركية. ------- سين كين باحث بارز في معهد الولايات المتحدة للسلام ------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان سيانس مونيتور"