إن محاولة تصنيف طبيعة ومضامين التجارب السياسية التي مرت بها الدول الوطنية الحديثة في العالم العربي، وربما العالم الإسلامي قاطبة، تثير تساؤلات عدة فيما يتعلق بصحة وفعالية مناهج التفسير والتأويل المختلفة التي استخدمت حتى الآن، فأي تحليل للمبادئ التي تسعى إلى تأسيس وضع وطني علماني، أو طرح برنامج إصلاحي، لابد له بالضرورة أن يتطرق لبعض الأوضاع على صعيد النموذج الفكري الخاص بالوطنية العلمانية، وبالرموز الخاصة بالإسلام. وتختلف النظريات حول الطبيعة الحقيقية لكل واحدة منها كنظام اجتماعي - سياسي، والمساعي الخاصة باستخدامها كدليل لتحقيق هدف إعادة البناء، فالبعض منها جدلي عنيف متشبث بآرائه، والأخريات أكاديمية عميقة التفكير والطرح مع وجود مجموعة من ظلال الطيف بين هذا الطرف ونقيضه. لقد أصبحت العلمانية والوطنية والخضوع المتلازم للإسلام كمبدأ ديني- اجتماعي- سياسي هي الأفكار المسيطرة في الحياة العامة لمعظم الشعوب العربية في المرحلة الراهنة. ومع القيام بتصميم نماذج من المبادئ المتداخلة في الأيديولوجيات الوطنية بهدف استقطاب وتعبئة الجماهير العربية حدثت إعادة صياغة فكرية- أيديولوجية في العديد من الأقطار العربية، وتولدت أطر سلوكية وولاءات جديدة. وشكلت السلوكيات والولاءات الجديدة تباعداً صارخاً مع الماضي وولدت آمالاً وتطلعات آنية ومستقبلية جديدة، لكن مع مرور الوقت اتضح أن محاولات استخدامها كمنطلقات لبرامج تنمية طموحة يعتبر أمراً محبطاً. إن الممارسات السياسية الخاطئة واحتكار السلطة ومصادر القوة من قبل بعض الأنظمة الحاكمة جعلها تبدو غير ملائمة لإقامة الدولة الوطنية المنشودة والحكومة التي تدير شؤونها. إن نتائج التجربة الوطنية العلمانية المعاصرة قادت إلى ظهور نزعة لإعادة التقييم والمحاسبة كانت في بعض الأحيان ثورية المنشأ، وهو أمر كانت ولا تزال له تداعياته المؤثرة على كامل المنطقة. ولكن لأنه لم تجر محاولة لمعرفة لماذا فقدت الوطنية العلمانية زخمها وأصبحت في بعض الحالات معيقة عوضاً عن أن تكون خلاقة ومفيدة، فإن النزعة الإصلاحية لم تأخذ مداها المطلوب بعد. ويوجد سبب رئيسي آخر هو أن نوع الوطنية التي تجددت في البلاد العربية كانت عبارة عن إعادة توالد محدود للأصل العربي. وعلى رغم أنها كانت ملتزمة بالتحرر من السيطرة الأجنبية وتقوي شعوراً بالمسؤولية تجاه التطلعات العامة، إلا أن فلسفتها السياسية لم تقدم للمواطن العربي ضمانات ضد سوء استخدام السلطة. وفي المقابل فإن تطوير تقييم ناجع للتقاليد الإسلامية وتثمين للمناهج المعاصرة الخاصة يعتبر مهمة صعبة. وتمثل مواقف معظم الباحثين في هذا المجال أن الإسلام خلال مسيرته الطويلة قد تحول من مبدأ ديني فقط إلى حضارة ذات جوانب متعددة. وعلى رغم أن الإسلام حاز بعداً سياسياً إلا أن العرب يواجهون صعوبة بالنسبة لمشاكل السلطة والحكم. فقد أصيبت الثقافة الإسلامية في القرون الأخيرة بالجمود وأصبحت غير خلاقة فكريّاً، بالإضافة إلى التسوس والفساد والانحطاط الذي أصاب المؤسسات المسؤولة عنها، ما انعكس عليها سلباً. إن حالة الحصار التي ألمت بالثقافة والحضارة الإسلامية قادت إلى تواجد حوار حول ما يجب على العرب القيام به لإصلاح الحال. والمطلوب هو القيام بجهود مكثفة لإعادة صياغة إطار عمل تحليلي يجمع بين تقييم مقارن لتفسيرات متضادة مع الأخذ بعين الاعتبار ظروفاً واقعية قائمة في كافة المجتمعات العربية.