إسرائيل، التي تعتبر نفسها، ويعتبرها عدد كبير من الدول الغربية، الدولة الأكثر ديمقراطية في المنطقة، والتي تستغل ما يجري اليوم في العالم لتؤكد هذا الاعتبار، هي في الحقيقة دولة الإرهاب المنظم، والإجرام والقتل الجماعي والاغتصاب والاحتلال، ودولة المقابر الجماعية للفلسطينيين، دولة خلاقة في ابتكار أفكار القتل ونوعيات المقابر. فهل ثمة دولة في "العالم الحر" كما يقولون، وفي القرن الحادي والعشرين، تقتل وتشرد وتغتصب الأرض وتسن القوانين العنصرية ضد شعب أعزل، وتدمّر وتقتلع الأشجار، وتمارس كل أشكال الإهانات والإرهاب الجسدي والمعنوي، ثم تدفن الناس أحياء، وتستخدم أجسادهم حقول تجارب لشركات أدوية أو تستأصل منها أعضاء لتُزرع في أجساد مواطنيها المحتاجين، ثم تبتكر فكرة "مقابر الأرقام" وتحتجز فيها جثث شهداء قتلتهم! نعم إنها دولة الخطف المنظم. تخطف الأحياء وتخطف الأموات. تبتز الأحياء وتبتز الكل بجثث الشهداء! هذه هي إسرائيل. هذه هي "الديمقراطية " الفريدة التي تميزها. تباهت منذ أسبوعين بأنها قدمت تنازلاً للفلسطينيين، عبارة عن "حسن نية" تجاههم. ما هو هذا التنازل؟ فتحت مقابر الأرقام. وافقت على تسليم جثامين 84 شهيداً، بعضهم احتجز جسده لأكثر من ثلاثة عقود. وبقيت مئة وجثتان ستسلم لاحقاً. ومقابر الأرقام أنشأها الاحتلال منذ بداية الصراع العربي- الإسرائيلي وسميت بذلك لأن كل جثمان في تلك المقابر يحمل رقماً مسجلاً على لوحة من الصفيح... وفي مقابل هذه المقابر، ثمة مقابر تاريخية تعود للعرب " تنبشها " إسرائيل، تحفرها، تدمرها، تبني فوقها، تزيل آثارها ومعالمها وترمي عظام المدفونين فيها منذ عقود كثيرة من الزمن وتمارس بذلك ديمقراطيتها الفريدة التي يتغنى بها العرب وتدافع عنها أميركا! بالأمس صادقت اللجنة اللوائية للتخطيط والبناء التابعة لبلدية الاحتلال في القدس، على خطة تقضي بإقامة متحف على أراضي مقبرة "مآمن الله" التاريخية الإسلامية في القدس المحتلة. واعترفت بلدية الاحتلال، خلال إعلانها نبأ المصادقة، بأنها نقلت رفات مئات الموتى من المقبرة إلى أماكن لم تفصح عنها، خلال ست سنوات من أعمال الحفر والتجريف المتواصلة فيما تبقى من المقبرة. يعني، خطفت الرفات، ربما إلى مقابر أرقام! مقبرة "مآمن الله" تعتبر من أكبر المقابر الإسلامية في بيت المقدس، يقال إنه قد دفنت فيها رفات شخصيات دينية بارزة! وكانت تقدّر مساحتها بـ 200 دونم، لم يبقَ منها سوى 24، لأنها تعرضت ومنذ عام 1948 لاعتداءات متواصلة من سلطات الاحتلال، وحولت أغلبها إلى حديقة باسم "حديقة الاستقلال" وشقت الشوارع وبنيت الفنادق ومواقف المركبات على أجزاء أخرى منها، ويجري العمل الآن، لبناء ما يسمى بـ"متحف التسامح " وخطط لإقامة محاكم إسرائيلية، وأخرى لإقامة موقف مركبات إضافي! هل بناء مقابر الأرقام" هو للتسامح؟ أو تعبير عنه؟ وهل الاعتداء على الحرمات والكرامات بشكل متواصل وعلى الرفات عبارة عن الرغبة في التسامح؟ وهل متحف التسامح يقوم على الاستمرار في التدمير، والقتل الجماعي؟ وكيف يكون تسامحاً والزرع مستمر في ذاكرة الفلسطينيين والمسلمين، لكل بذور الكراهية بسبب الانتهاكات والاعتداءات على الأحياء وجثث الشهداء ورفاتهم؟ إسرائيل تريد إزالة كل أثر للعرب والمسلمين على تلك الأرض فكيف يكون تسامحاً؟ تسامح بين مَن و مَن؟ وهل هي تبني في سياق سياسة المقابر، "مقابر التسامح" وليس "متحف التسامح"؟ وهذا ما هو أقرب إلى الحقيقة من خلال ممارساتها اليومية الإرهابية المنظمة ضد الفلسطينيين؟ هذا نموذج جديد اليوم من نماذج تلك الممارسات التي لن تتوقف، لأن رموز العصابة في تلك الدولة يعرفون تماماً ماذا يريدون، وكيف يخططون، وكيف يستغلون واقع أعدائهم العرب، الذين لا يعرفون استغلال نقاط ضعف هذا الكيان على رغم كل الجبروت والتجبر الذي ميّز سياسات وممارسات قادته، ولولا ما جرى في لبنان من هزيمة لإسرائيل، وبقاء ذاكرة الشعب الفلسطيني، وإرادته قوية وثباته على أرضه واستعداده لتقديم المزيد من التضحيات لكانت نجحت إرادة إسرائيل بالكامل. وهي حتى الآن تزيد عدد المقابر. مقابر الأرقام ومقابر "التسامح" لكنها لم تنجح في تحقيق مشروعها الكامل وفرض إرادتها. واليوم، الفلسطينيون أمام تحدٍ جديد. يستعدون للذهاب إلى الأمم المتحدة بعد أسابيع للمطالبة من طرف واحد بدولة فلسطينية مستقلة. العرب سيتحركون في هذا الاتجاه، وإن كان عدد من دول أميركا اللاتينية قد سبقهم منذ فترة طويلة إلى الاعتراف بدولة فلسطين بحدود الـ67 عاصمتها القدس. وهذا الأمر أقلق الإسرائيليين -طبعاً- ذهبوا إلى ممارسة كل الضغوط في أميركا وأروقة مؤسساتها الرسمية والسياسية لضمان تأكيد ممارسة الإدارة الأميركية حق "الفيتو"، ثم انتقلوا إلى أوروبا للتركيز على "الغالبية الأخلاقية" كما سمّاها المسؤولون الإسرائيليون، على أساس أن الذين اتخذوا قرارهم في أميركا اللاتينية بتأييد الشعب الفلسطيني ليسوا أخلاقيين، وموقفهم ليس موقفاً أخلاقيّاً. فأداروا ظهرهم لهم وذهبوا إلى الأخلاقيين. ومن ذهب؟ "الأخلاقيون"، الذين يبنون "مقابر الأرقام" وينبشون "مقابر مآمن الله" ويعمرون "مقابر التسامح" ويدمرون كل أمل في الوصول إلى حل ولا يزرعون إلا بذور الحقد والكراهية. معركة الدولة الفلسطينية كبيرة. يعرف الفلسطينيون أنهم لن ينجحوا فيها في مجلس الأمن من جانب واحد. لكنها معركة مهمة سياسيّاً وأخلاقيّاً وإعلاميّاً ودبلوماسيّاً إذا أديرت بشكل جيد، وقد تحرج إسرائيل كثيراً ولذلك لابد من خوضها على قاعدة الحد الأدنى من التفاهم الفلسطيني- الفلسطيني.