من العوامل المؤثرة في حركة النهضة، الاستفادة مما وصل إليه الآخرون في تجارب التقدم الذي أحرزوه، وقراءة ذلك قراءة واعية في أصول المسار التاريخي، الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، الذي سلكته الأمم الأخرى في طريقها إلى النهضة. وكذلك إعادة النظر في كثير من الوسائل والأفكار التي تم اتباعها لتحقيق الرقي العلمي والتقني. والبحث حول جوانب الضعف والقوة في تلك التجارب لاستخلاص العبرة، وانتقاء ما يتناسب منها مع الخصوصيات المحلية. وهنا يمكن النظر في تجربة ماليزيا التي لم تستسلم للظروف الصعبة التي كانت عليها غداة نيلها الاستقلال، سواء فيما يتعلق بآثار الاستعمار الذي وقعت تحت نيره ثلاثة قرون، أو فيما يتصل بحالة الفقر ومحدودية الموارد والإمكانيات لديها عقب الاستقلال، أو التركيبة السكانية (العرقية والدينية) وما كانت تخلقه من توتر دائم. فرغم كل ذلك، وخلال ثلاثة عقود، حققت ماليزيا ما لم تحققه دول تملك الموقع الجغرافي المهم والموارد الطبيعية والإمكانيات البشرية الهائلة. فمنذ عام 1981 تحركت دينامية النهضة في الجسد الماليزي بأكمله، وذلك بمعالجة الاختلالات القائمة أولاً، وتحقيق أهداف النهوض ثانياً. وقد تحقق ذلك بقيادة مهاتير محمد، أستاذ طب الأطفال والأب الروحي لهذه التجربة، والذي عبّر عن سر نجاحها بقوله خلال لقاء جمعه مؤخراً مع مجموعة من الكتاب والمفكرين المصريين ونشرته صحيفة "الأهرام" في عددها الصادر بتاريخ 30-6-2011، قائلاً: "إنني ومبارك كانت لدينا نفس الصلاحيات، لكن في حالتي لم تكن الصلاحيات دائمة، فقد أدرت الدولة وأنا دائماً تحت تهديد إمكانية أن أخسر الانتخابات التالية، وهو ما دفعني للحرص على استمرار دعم الشعب، والاستجابة لاحتياجاته وتحقيقها. في حالة ماليزيا كانت توجد مشكلة البطالة، وهو ما دفعنا دائماً لخلق فرص عمل من خلال تحقيق نمو اقتصادي، وهذا أمر يدفع الناس لإعادة انتخابك، لكن عندما يشعر المرء بأن الانتخابات لا قيمة لها، وبأنه باقٍ مهما كانت النتيجة الفعلية للاقتراع، فإن الدافع للحفاظ على دعم الشعب ينتفي". ويضيف مهاتير: "لقد توصلنا في ماليزيا إلى أن تجربة اليابان كانت فريدة، فهي التي أهلتها لأن تكون صاحبة ثاني أكبر اقتصاد في العالم، رغم الدمار الذي حلّ بها عقب الحرب العالمية الثانية، وهو ما دعانا للأخذ منها، لكن بعد التعديل بما يناسبنا". وفي التجربة السنغافورية كذلك نلاحظ شيئاً مماثلا، وقد لخصه "كوان يو" رئيس الوزراء السنغافوري السابق، والذي يعد المهندس الفعلي لتلك التجربة، في كتابه "من العالم الثالث إلى الأول". فرغم أن سنغافورة جزيرة صغيرة تفتقر للموارد الطبيعية، وبنيتها السكانية متعددة الأعراق... فقد ارتفع دخل الفرد فيها حوالي ثلاثين ضعف ما كان عليه عند الاستقلال، فأصبحت مركزاً رائداً في مجالات التجارة والطب والعلوم والصناعات الدقيقة. كذلك حققت التجربة الكورية خطوات مهمة في نقل التقنية، وذلك أولاً بمراجعة نظامها التعليمي وتعديله حتى أصبح قادراً على إعداد العقول الكورية للتعامل مع العلوم الحديثة وفهم أسرار التقنية والتعمق فيها. وكانت النتيجة أن أصبح الإنسان الكوري قادراً على التطوير والابتكار والاختراع والإبداع. فتلك أهم ديناميات النهضة، لذلك عندما سُؤل أحد وزراء التربية السابقين في اليابان عن سر تقدمها؟ أجاب: "إنه يرجع إلى تربيتنا الخلقية للأجيال".