ما هي الملامح الأساسية لمستقبل اليابان؟ وكيف تستطيع الخروج من مشاكلها المتعددة وإعادة ابتكار نفسها كقوة اقتصادية ونموذج ناجح تسعى بلدان العالم للاحتذاء به؟ هذه الأسئلة وغيرها نجدها في الكتاب الذي نعرضه هنا بعنوان "إعادة تخيل اليابان... البحث عن مستقبل ناجح"، لمجموعة من المؤلفين الذين حاولوا تشخيص الأمراض اليابانية سواء المتعلقة بالاقتصاد، أو المجتمع، مع تقديم وصفات يرونها ناجعة للعلاج. فالكتاب مجموعة من المقالات المتنوعة والمختلفة حول الوضع في اليابان، مع تركيز كل مقالة على زاوية معينة وإن تكررت المواضيع أحياناً، مع اهتمام خاص بكيفية نهوض اليابان بعد الكارثة التي ضربت البلاد إثر زلزال 11 مارس الماضي وما تلاه من تسونامي ثم تسرب نووي خطير. أما المشاركون فيتوزعون بين رجال أعمال وأصحاب شركات، وبين أكاديميين وصحفيين مهتمين بالشأن الياباني، كما تتوزع جنسياتهم بين أبناء اليابان نفسها وغربيين تجمعهم الرغبة في فهم اليابان ومعضلاتها المتعددة التي تتأرجح بين نموذج اقتصادي لم يعد فعالا وبين ثقافة مجتمعية كارهة للتغيير ومترددة في إحداث التغيرات الاجتماعية والذهنية الضرورية لتجاوز الأزمة وإعادة تسطير أمجاد اليابان التي فاجأت العالم قبل عقود عندما تربعت على عرش الإنتاج الصناعي ونافست الولايات المتحدة عندما كانت هذه الأخيرة في أوج قوتها. فرغم الكليشيهات التي التصقت باليابان على مدى السنوات الماضية والتصورات التي صارت أحكاماً ثابتة بفعل التكرار والتداول مثل "العقد الضائع" و"مقاومة التغيير" وغيرها، يطرح الكتاب من خلال مقالاته المتنوعة رؤية عميقة للمواضيع نفسها وإعادة تناولها بطريقة مختلفة. فمثلا تجاوز بعض الكتاب مثل الياباني "ناتسومي إيواساكي" الإحراج من الحديث عن التدهور الذي تعيشه البلاد باعتبار أنه حقيقة لم يعد من المجدي إنكارها، بل يمكن التعامل معها إيجابياً بالتخفيف من تداعيتها وفسح المجال لانكماش اليابان دون مشاكل. فبدلا من النموذج القائم على النمو السريع للاقتصاد، يقول الكاتب فإنه من الأفضل في هذه المرحلة التي تتكالب فيها المشاكل على اليابان التركيز على جودة الحياة بالنسبة للمواطن وضمان استفادته من النمو ومستويات التنمية البشرية العالية في البلاد، لكن البعض الآخر ومن ضمنهم "آدام بوسين"، العضو في لجنة السياسات المالية ببنك إنجلترا المركزي وأحد المهتمين بالوضع الياباني، يجادل بأن ما ينقص البلاد ليس الانكماش على نفسها، بل تبني نظرة تفاؤلية حول المستقبل، مستشهداً بالنجاح الذي حققته اليابان بعد فترة الركود الطويلة خلال عقد التسعينيات، وقدرتها في بداية الألفية الثالثة على إعادة تأهيل قطاعها المصرفي. وما كانت الأمور لتسوء، حسب الكاتب، لو لم تنزل الأزمة الاقتصادية العالمية بثقلها على الاقتصاد الغربي وتمتد التداعيات إلى اليابان. هذا الرأي المعارض لحتمية التدهور يتفق معه "يوشي فوناباشي"، رئيس تحرير إحدى الصحف اليابانية، بالقول إنه يتعين الخروج من فكرة "السقوط المريح وغير المؤلم لليابان" الذي يسوق له البعض، داعياً في المقابل إلى استغلال كارثة الزلزال للنهوض من جديد، مشيراً إلى تاريخ اليابان الذي يُسعف دائماً على النهوض ويقدم الدروس والعبر، فقد استطاعت اليابان بعد الدمار الذي خلفته الحرب العالمية الثانية بناء نفسها كقوة اقتصادية عالمية يعتد بها. واللافت في هذه المحاولة لتخيل مستقبل متفائل لليابان، أن الكتاب اليابانيين هم الأكثر قسوة في تحليلاتهم، متطرقين إلى بنية المجتمع الياباني والمشاكل المجتمعية التي تعيق الخروج من الأزمة والانطلاق مجدداً على المسرح العالمي، وهو ما يعبر عنه "ياسوشيكا هاسيجاوا"، رئيس إحدى شركات صناعة الأدوية بقوله: "ما لم تصل هذه البلاد إلى الحضيض وتتفاقم المشاكل، لن يتبنى الناس التغيير"، في تأكيد لمحافظة المجتمع الياباني وعدم إقباله على المغامرة والتغيير كما هو الحال بالنسبة للمجتمعات الغربية. هذا الغياب للحيوية المجتمعية الضرورية لأي تقدم يلتقطه أيضاً كتاب آخر معبراً عنه بكلمات قاسية يقول فيها: "إن مشاكل اليابان الكبرى هي المحافظة والجبن". ويواصل البعض كشفهم للاختلالات اليابانية، بتسليط الضوء على المعضلة الديمغرافية التي تعانيها اليابان بسبب تناقص السكان والعزوف عن الزواج. فحسب الإحصاءات سيصل عدد اليابانيين الذين تتجاوز أعمارهم 65 سنة بحلول 2055 نسبة 41 في المئة، ما سيطرح تحدياً كبيراً بالنسبة للعمالة ومواصلة النمو الاقتصادي. وإذا كان البعض اقترح كعلاج لهذه المشكلة فتح أبواب الهجرة، فإن البعض الآخر رفض الاقتراح. أما على مستوى العلاقات الدولية فهناك من يتحسر على تراجع مكانة اليابان في محيطها الآسيوي بعد صعود الصين وتحولها إلى ثاني اقتصاد في العالم، بل حتى على صعيد التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة لم تعد هذه الأخيرة تعتمد على اليابان بعد ظهور كوريا الجنوبية كحليف متميز. والملاحظ أن التساؤلات حول مستقبل اليابان رغم تضاربها بين التفاؤل والتشاؤم، فإن الثقة مازالت قوية في قدرة شعبها الذي فاجأ العالم في كل مرة على تكرار المفاجأة، رغم الأعطاب البنيوية والثقافية التي تعوق صعود اليابان. زهير الكساب الكتاب: إعادة تخيل اليابان... البحث عن مستقبل نجاح المؤلفون: برايان سالزبورج وكلاي شاندلر وآخرون الناشر: ماكينزي تاريخ النشر: 2011