إذا كانت الإنسانية تريد حقاً الحفاظ على السلام والديمقراطية، وعلى مستويات حياة للنوع البشري تتسم بطابع الاستدامة وتلبي الاحتياجات الضرورية، وتتيح أيضاً قدراً معقولاً من الكماليات التي تعودت عليها الأجيال المعاصرة، فليس أمامها من خيار سوى العمل من الآن فصاعداً لتبني رهان رابح وحيد، هو حصراً ما يبدو متاحاً في الأفق، ومؤداه أن تعيد رسم أنماط الحياة الإنسانية، بأن تسعى لصناعة مستقبل اقتصادي وصناعي، ومن ثم اجتماعي وسياسي، قائم على مبدأ الاستغناء عن الطاقة الكربونية في معظم، إن لم يكن في كل، أنشطتها الإنتاجية والاستهلاكية الراهنة. ولكي يتحقق هذا الهدف الطموح فلابد من البدء الآن، ودون تأخير، في وضع الخطط الاقتصادية، والاستراتيجيات الطاقية، وكذلك يلزم وضع هندسة اجتماعية جديدة قادرة على تغيير مختلف أساليب التسيير والتدبير السائدة في أشكال الإنتاج اليوم، وفي كافة أنماط الحياة الاجتماعية والمهنية المتأسسة على اقتصادات مصادر الطاقة الكربونية ذات المنشأ الحفري مثل النفط والغاز والفحم وغيرها. هذا ما يذهب إليه الكاتب الفرنسي جان- مارك جانكوفيتشي في مؤلفه الصادر مؤخراً تحت عنوان: "تغيير العالم: برنامج كامل"، وهو كتاب يُعد بمعنىً ما إسهاماً في صلب السجال الدائر الآن في مختلف الدول الصناعية الكبرى، حول السبل الكفيلة بضمان أمن الطاقة في المستقبل، دون الاستمرار في الانحدار والغفلة انتظاراً لمفاجآت المستقبلات الكابوسية التي بدأت تنذر بها كوارث التغير المناخي والاحتباس الحراري. كما يعد هذا الكتاب أيضاً استمراراً لجهود المؤلف "جانكوفيتشي" العلمية في هذا المجال، وهو أستاذ جامعي واستشاري بارز ومقدم برامج تلفزيونية بيئية، كما أنه خريج مدرسة "بوليتكنيك" المرموقة للمهندسين. وقد أصدر من قبل، منفرداً أو مشاركةً، عدة مؤلفات حول أمن الطاقة والبيئة منها على سبيل المثال لا الحصر "حل لمشكلة الطاقة"، و"التغير المناخي مشروحاً لابنتي"، و"ثلاثة أعوام لإنقاذ العالم"، وغيرها، ولا يخفي "جانكوفيتشي"، أيضاً سعيه، من خلال هذا الكتاب، لفرض المسألتين البيئية والطاقية، على أجندة الحملة الانتخابية للرئاسة الفرنسية العام المقبل، التي دخلت الآن الصحافة والطبقة السياسية الفرنسيتين في أجوائها التمهيدية المبكرة. وفي هذا الكتاب يثير "جانكوفيتشي" موضوع أمن الطاقة ومشكلات الاحتباس الحراري في وقت واحد، من خلال التبشير بخطة طموح تستجيب في الوقت ذاته لتحديات المسألتين معاً، فهي تضمن التخلص مستقبلاً من مصادر الطاقة الحفرية، المعتبرة على نطاق واسع مصدراً أول للكربون ومن ثم للاحتباس الحراري، وفي الوقت نفسه تؤسس لأنماط استهلاك طاقي بديلة أكثر قابلية للاستدامة وأقل ثمناً اقتصاديّاً، وأرحم من حيث الفاقد البيئي. ولكن حتى لو سلمنا بصحة كلام المؤلف، وغيره من نشطاء البيئة، وهجائهم المتواصل للطاقة الحفرية وتداعياتها الكارثية على البيئة والاحترار العالمي، فما هو البديل الأنسب ضمن حزمة الخيارات المتاحة والممكنة اليوم، وغدا؟ هنا يستحق "جانكوفيتشي" أن نتحول إليه وهو يستعرض في سياق حجاجه سلبيات وإيجابيات حزمة الفرص والخيارات الممكنة التي يتيحها كل نوع من مصادر الطاقة الجديدة، غير التقليدية، حيث إن طاقة الشمس، في نظره، على رغم طابع الاستدامة إلا أنها ما تزال مكلفة للغاية، كما أن مساهمتها في تلبية طلب السوق العالمية على الطاقة ما تزال رمزية جدّاً. فهل الحل إذن يكمن في الطاقة النووية المدنية؟ لاشك أن هذا الخيار يتيح فرصاً ممتازة، ولو كحل انتقالي للبشرية، ولكنه ما زال أيضاً يحتاج إلى كثير من التحديث والتجويد وتطوير إجراءات السلامة، وخاصة أن حادثة فوكوشيما ما تزال في الأذهان. ويستمر الكاتب مستعرضاً مختلف الخيارات الأخرى، العديدة ضمن خيارات طاقة البدائل، غير الحفرية، وإن كان الأهم عنده هو ضرورة التغيير في السلوك الاستهلاكي، قبل البحث عن البدائل مع الاحتفاظ بالعادات الاستهلاكية الراهنة غير القابلة للاستدامة. وبعبارة أوضح فإن الأمر يستدعي في نظر الكاتب ما هو أكثر بكثير من مجرد ترتيب سلم الأولويات فيما يتعلق بخيارات مصادر الطاقة الراهنة والممكنة، إذ لابد من العمل على إنجاز مشروع مجتمع إنساني كامل معتمد على اقتصادات مستغنية تماماً عن طاقة الكربون، أو لنقل بكل بساطة مجتمعات "منزوعة الكربون"، بحيث يعاد تصميم أشكال السلوك والاستهلاك، والسكن والعمل، والزراعة والصناعة، والطب والتغذية، بل والأمان والأمن والدفاع والدبلوماسية، وكل الأنشطة الاجتماعية والسياسية الإنسانية على نحو تقل معه إلى درجة تقارب الصفر نسب الاستهلاك والارتهان لمصادر الطاقة الحفرية. ولأن الوقت يمر بسرعة فلابد من الإسراع بالانخراط في الاستجابة لاستحقاقات وتحديات إنجاز مشروع مجتمعات الغد المستغنية اقتصاديّاً واجتماعيّاً عن طاقة الكربون. لابد من ذلك، يقول الكاتب، قبل فوات أوان الإقلاع بالجنس البشري من خلال حزمة خيارات طاقية صعبة، أصبحت ضرورية، بل لعلها أصبحت بمثابة سفينة نوح، لم يعد من سبيل غيرها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الحضارة الإنسانية الراهنة والمستقبلية. حسن ولد المختار الكتاب: تغيير العالم: برنامج كامل الكاتب: جان- مارك جانكوفيشي الناشر: كالمان- ليفي تاريخ النشر: 2011