لو كنت قيادياً أو إدارياً إعلامياً في أجهزة الإعلام المختلفة، المرئي والمقروء والمسموع، لاقترحت على زملائي أن يقللوا من الكلام عن الثورة أو "الربيع العربي"، ويكثروا بدلاً من ذلك من الكلام عن ما بعد هذا الربيع. نحن نعرف ما حدث، على الأقل في خطوطه العريضة، وستتكفل كثير من الدراسات والكتب التي تُعد الآن وتنهمر علينا بعد قليل بالشرح وتحليل التفاصيل. ولكن ما نحن أحوج إليه الآن هو معرفة ماذا سيحدث، أين تتجه المنطقة العربية، من مصر والمغرب إلى سوريا واليمن. نحن الآن في شبه المرحلة الأولى: انطلق الصاروخ، صاروخ الثورات وحتى تغيير بعض نظم الحكم، لكن المرحلة الثانية - وهي الأهم - أي توجيه هذا الصاروخ، لا نعرف عنها أي شيء، ولهذا فقد يتوه هذا الصاروخ في مياه البحر المتوسط أو رمال الصحراء الليبية، بسبب عدم وجود أي نظام للتوجيه أو الملاحة، فقد يرتد هذا الصاروخ وينقلب على رؤوس البعض ليدمر قوى وأنظمة ويؤذي شعوباً ودولا. وباختصار شديد، فإن المرحلة الثانية أو ما يمكن تسميته نظام الملاحة اللازم لتوجيه "الصاروخ" وتحديد مساره، هي أهم بكثير من المرحلة الأولى أو إطلاق الحركة الاحتجاجية التي نشبهها هنا بالصاروخ. ولذلك فعلى الإعلاميين أن يركزوا ابتداءً من الآن على هذه المرحلة ومناقشتها بموضوعية وتجرد، إذا كنا نود فعلاً مساعدة قرائنا والإسهام في النقاش العام حول مستقبل المنطقة العربية وما تعتمل به من تغيرات وتحولات جديدة. وللتذكرة فقط حول ما حدث؛ فقد بدأ عام 2011 باحتجاجات الشارع العربي وجماهيره الغفيرة من أجل "الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية"، وهكذا اختلطت المطالب الاقتصادية بالشعارات السياسية، حتى ولو كانت الشرارة الأولى من الشاب التونسي محمد البوعزيزي الذي أشعل النار في نفسه، كرسالة احتجاج ضد انتشار البطالة بين الشباب الجامعيين وسوء معاملة سلطات الأمن لهم. ثم انتشرت هذه الاحتجاجات إلى حوالى 17 دولة عربية. بعض النظم الحاكمة انهار بسرعة مدهشة، كما حدث في تونس ومصر، بينما هناك نظم أخرى تواجه حركة احتجاج داخلية قوية وتحاول الصمود والمقاومة في مواجهة قوى التغيير الشعبي، وقد أدخلت هذه النظم بلادها في حروب أهلية دامية، ومن ذلك ما نراه مثلاً في كل من ليبيا واليمن، وحتى في سوريا أيضاً إلى حدما. أما النمط الثالث من الأنظمة فقد حاول التكيف مع المطالب الجديدة للجماهير، وذلك باقتراح حلول إصلاحية وحوارات وطنية، كما جرى في المملكة المغربية مثلا. وهكذا سيطرت "سياسة الشارع" على كل الأمور السياسية، بما فيها مشاكل مستعصية مثل القضية الفلسطينية أو الوضع العراقي أو "التوافق اللبناني" وقرار المحكمة الدولية فيما يخص اغتيال الحريري، أو تمزق السودان وظهور دولة جديدة في جنوبه لا نعرف الكثير عن قدرتها المستقبلية وتداعيات قيامها على المنطقة. وبالطبع نتناسى الآن، ليس فقط مشاكل نقص المياه التي تهدد المنطقة، أو ضمان التقدم الاقتصادي المتعثر في كثير من الدول العربية، أو حتى ضمان الحد الأدنى من استقرار الأسعار في الأسواق المحلية ونحن على أبواب شهر رمضان المبارك! وهكذا باختصار، فإن "سياسة الشارع" جاءت بأجندة مختلفة وأولويات أخرى مغايرة، حتى ولو كانت بعض بنودها مطلوبة أو ضرورية، لكن حتى الآن لا نعرف السبيل إلى تنفيذ هذه البنود، حتى في بلاد قامت بها نظم جديدة مثل تونس ومصر، بل على العكس من ذلك، نرى أن هناك حالة من الاضطراب تسيطر على الحياة العامة، السياسية والاقتصادية، في وقت تزداد فيه الحاجة إلى زيادة الإنتاج لتلبية المطالب بعد طول انتظار. لا يكفي البدء في المرحلة الثانية -أي إيجاد نظام توجيه وملاحة لصاروخ الانتفاضة أو الحراك الشعبي العربي- أن يوحد الشارع صفوفه ويقدم أجندة عمل توافقية وواضحة، بل الأهم من ذلك هو تجاوب نظام الحكم والتزامه بالمصلحة الوطنية كما يعلن، بدلاً من مصالحه الخاصة. وفي ليبيا كما في اليمن، تعدينا المشكلة السياسية كما أوجدها نظام الحكم لنواجه كارثة إنسانية فيما يتعلق بالحياة اليومية: من الحصول على ماء الشرب ومحروقات الطاقة أو حتى المواد الغذائية وباقي ضروريات الحياة اليومية، وفي هذين البلدين فلتت الأمور من أيدي الفاعلين المحليين ليتم تقرير مصير الحكم في البلدين من الخارج. وحتى لو تم وقف الحرب الأهلية في البلدين فوراً، اليوم أو غداً، فإننا سنكون عندها أمام مرحلة جديدة مليئة بالمشكلات والمآسي، ويصبح من "إنجازات" نظامي الحكم في كل من اليمن وليبيا أنهما رفعا نسبة الدول العربية في قائمة الدول العشر الأكثر فشلاً في العالم من 60 في المئة إلى 80 في المئة! ألم أقل إنه ينبغي أن نكرس جهودنا الآن ليس لتقييم وجرد ما حدث، بل أساساً ماذا سيحدث؛ أي توجيه نظام الملاحة في الصاروخ التائه؟!