يشكل اختفاء صحيفة "نيوز أوف ذي ورولد" لصاحبها روبرت مردوخ عن الساحة الصحفية البريطانية، بعدما كانت تتسيدها لفترة طويلة من الزمن باعتبارها الجريدة الأكثر مبيعاً، تحذيراً جديّاً لصناعة الصحافة في العالم كله، ولذا يتعين على الصحفيين وعلى كل قارئ متابع للصحف، أو مهتم بالوسائط الإعلامية الأخرى سواء المرئية، أو المسموعة، أو الإلكترونية، إعادة تقييم مهنة الصحافة في عالم اليوم والنظر في وظائفها المجتمعية دون إغفال حدود اشتغالها. فهل الهدف من الصحافة جمع المال ومراكمة الثروة، فقط لا غير، أم أن لها حزمة أهداف أخرى كثيرة؟ علماً بأن بعض الصحف نجح فعلاً على الصعيد التجاري خلال السنوات الماضية، وإن كان ذلك قد أصبح أكثر صعوبة اليوم مع ظهور التكنولوجيات الجديدة واكتساح الإنترنت لعالم النشر. وإذا كانت مرحلة النجاح المالي والتجاري قد ولَّت بالنسبة للصحافة الورقية، فهل تحول دورها الآن إلى التحكم في السياسيين، وأحياناً ابتزازهم، لما تمثله من قوة تأثير فعالة في تشكيل توجهات المجتمع؟ وإذا افترضنا أن الصحافة المتزنة لا تبتز ولا تنحاز في الصراعات السياسية، فهل يترك اليوم الحبل على الغارب لبعض أشكال الصحافة، كما يلاحظ بالنسبة لبعض الصحف، لممارسة الإثارة الفجة ومخاطبة الشهوات والتلصص على حياة الناس الخاصة بما فيها من فضائح وأخطاء، والاهتمام بكل ما هو تافه وغير ذي جدوى؟ هل أصبحت الصحافة اليوم رديفاً لعبادة المشاهير وتسليط الضوء على الانحلال البشري؟ الحقيقة أن الصحافة الحقيقية لا علاقة لها بكل ذلك، حيث يُفترض فيها، مهما كانت وسائط اتصالها بالجمهور، أن تقدم خدمة خبرية للفرد وتنور المجتمع بكل موضوعية عن الأحداث المهمة التي يحتاج الفرد إلى معرفتها لتكوين رأي والمشاركة في النقاشات العامة، بالإضافة إلى مساعدته على فهم الزوايا والجوانب المعتمة من الأخبار بإضاءة ما خفي منها وكشفها له. وهذه المهمة تقتسمها الجرائد والمجلات المحلية التي تطلع القارئ على أخبار مجتمعه الصغير سواء تعلق الأمر بالقرارات الحكومية وأخبار الفريق الرياضي المحلي، مع الصحف الوطنية التي تنفتح على أخبار الوطن في عمومه وتنقل للقارئ أيضاً ما يجري خارج الحدود من أحداث تضج بها الساحة الدولية. والمفارقة بالنسبة لقطب الإعلام ذائع الصيت "روبرت مردوخ" أنه يدرك جيداً الفرق بين الصحافة الرصينة وصحافة الإثارة، ومع ذلك وقع في الخطأ بكلتا رجليه. قبل أعوام عندما شاركت في اللجنة التي تمنح جوائز "بوليتزر" المرموقة تلقيت مكالمة من صحفي يحاول تحقيق سبق من خلال معرفة الفائز قبل الإعلان عنه رسميّاً، وفي المكالمة سألت الصحفي الذي كان يبدو من خلال الجلبة التي تحيط بحديثه أنه وسط قاعة التحرير، عن صحيفته التي يملكها مردوخ، وما إذا كانت الأمور جيدة عندهم، فانطلق بصوت عالٍ يكيل الشتائم البذيئة للرجل. ولست أدري إن كان ذلك الصحفي قد ظل في وظيفته بعد الشتائم التي لابد أن الجميع سمعها. ولكن الأهم أن الكل كان يعرف من هو مردوخ بمن فيهم الصحفيون الذين يعملون في مؤسساته الإعلامية. وكانوا يعرفون أيضاً الفرق الشاسع بين صحيفة "وول ستريت جورنال" الراقية التي يملكها، وبين صحافة الإثارة الصفراء التي أدمنت على ممارساتها "ذي نيوز أو ذي وورلد". فالصحافة الجيدة ليست تلك التي تشبه "ويكيليكس" بحيث تقذف بكل شيء على الإنترنت بصرف النظر عما إذا كان مضراً للآخرين أو مسيئاً لسمعتهم، أو خاليّاً من المسؤولية. بل إن الصحافة الجيدة هي التي تتحرى الدقة في تغطياتها وتمتاز بذوق سليم وحس أخلاقي، فالمحررون الأكفاء والمسؤولون عندما يغطون حادثة سير لحافلة أطفال لا يختارون صوراً قريبة تظهر جثث الأطفال الممزقة، بل يتم التركيز على الحافلة المقلوبة على أن يستنتج المشاهد مدى فداحة الحادثة. وإذا نقلت صحيفة ما خبراً عن سيناتور سكِّير يتساءل المحرر ألف مرة قبل الإشارة إلى زوجته المخمورة أيضاً، لعدم تأثير ذلك على أداء زوجها المسؤول بحكم وظيفته العامة. كما أن الصحفي المسؤول لا يشير إلى أن الملحق التجاري في سفارة أميركية ما هو رئيس وحدة "سي أي إيه" في ذلك البلد إلا إذا كان لديه من الأسباب الوجيهة والقرائن الدامغة ما يبرر ذلك. ولكن صحيفة مردوخ البائدة اعتقدت على ما يبدو أنه لا ضير في التلصص على المكالمات الهاتفية للمشاهير وأفراد من الأسرة الملكية البريطانية، بل إنها أكثر من ذلك تنصتت على العلبة الصوتية لطفلة كانت ضحية عملية قتل، ولذا لا أعتقد أن اختفاءها فيه من المبالغة بقدر مبالغتها هي في ممارساتها غير المهنية. وإذا ما قررت الظهور مجدداً باسم مغاير فإنه يحسُن بها تغيير مسلكها واختيار أسلوب صحفي أكثر مسؤولية. وفي هذا السياق يمكن للصحافة البريطانية الاستفادة من التجربة الأميركية في تأسيس ما يمس "مجالس الصحافة" التي تعتبر هيئة مستقلة يلجأ إليها المتضررون لرفع شكاويهم من الصحافة وبعض تجاوزاتها. وعلى رغم معارضة البعض في "جمعية رؤساء تحرير الصحف الأميركية" لهيئة قد تتحكم في الصحافة، إلا أنني كنت دائماً من المؤيدين لها، لأن الصحافة المسؤولة تحتاج إلى هيئة غير رسمية تفحص ما تنشره وتقيمه ليس بهدف التضييق على حرية التعبير، بل لمنع وقوع الضرر والحد من التجاوزات المرتبطة بالحرية غير المنضبطة. جون هيوز كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"