تتهاوى العملة الأميركية بسرعة كبيرة في أسواق المال العالمية، مما يكبد عملات البلدان المرتبطة بالدولار خسائر جسيمة وينعكس على أسعار مختلف أنواع السلع والخدمات ويزيد من معدلات التضخم. وفي السابق كانت معظم تأثيرات تراجع الدولار تتمحور حول انخفاض العملات الوطنية المرتبطة به بنسب مماثلة تجاه العملات الرئيسية الأخرى في العالم، إلا أن هناك مستجدات عديدة تشير إلى امتداد هذه التأثيرات إلى جوانب أخرى لا تقل أهمية. هذه المستجدات برزت، كإفرازات للأزمة المالية العالمية التي حاولت واشنطن تجاوز بعض تداعياتها من خلال ما يسمى بـ"خطة التيسير الكمي" التي يتم من خلالها طبع المزيد من العملة الأميركية دون أسس مالية سليمة، حيث طبع بنك الاحتياط الفيدرالي الأميركي، أي البنك المركزي منذ بدء الأزمة ثلاثة تريليونات دولار، مما ترتبت عليه عواقب وخيمة على الدولار بشكل خاص، وعلى الأوضاع المالية للولايات المتحدة بشكل عام. ومع ذلك، فإن هذه الخطط المتعاقبة لم تثمر النتائج المرجوة منها، بل أوصلت الاقتصاد الأميركي إلى شفا الهاوية، كما تشير إلى ذلك وكالات التصنيف الدولية، حيث يمكن ذكر بعض المستجدات التي ستطال استثمارات مختلف بلدان العالم بسبب تجاوز الاقتصاد الأميركي للخطوط الحمراء المتعارف عليها دوليّاً. وأول هذه المستجدات يكمن في تجاوز الدَّين العام الأميركي لنسبة 60 في المئة من حجم الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة الأمان ووصوله إلى 100 في المئة من حجم هذا الناتج ليبلغ 14.3 ترليون دولار، حيث يشبه هذا الوضع إلى حد بعيد وضع اليونان قبل الأزمة وهو أحد الأسباب الرئيسية التي أدت إلى حدوث أزمة اليونان وغيرها من البلدان الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. أما ثاني هذه المستجدات فيرتبط بحجم العجز في الموازنة الأميركية الذي بلغ بدوره رقماً قياسيّاً تخطى نسبة الأمان البالغة 3 في المئة ليصل إلى 9 في المئة في العام الماضي 2010، وهو مؤشر خطير لا يمكن حله من خلال خطط التيسير الكمي المتبعة. وبما أن حجم الدَّين العام وصل إلى هذا المستوى، فإنه ليس بوسع الإدارة الأميركية تجاوز هذه النسبة دون موافقة الكونجرس وفق الأنظمة المالية الأميركية، إذ إن ذلك يشير إلى وجود احتمالين لا ثالث لهما، فإما أن يوافق الكونجرس على تخطي هذه النسبة والموافقة على توسيع الدَّين العام، مما يعني زيادة تدفق الماء من ثقب السفينة المعرضة للغرق. والاحتمال الآخر يكمن في رفض الكونجرس الاقتراض مجدداً، مما يضع الإدارة الأميركية في وضع لا تحسد عليه، في أجواء انتخابات رئاسية بدأت مبكراً، وأيضاً في أجواء كونجرس تسيطر عليه أغلبية "جمهورية" في ظل رئيس ديمقراطي. في نفس هذه الأجواء الملبدة بالغيوم السوداء هددت وكالات التصنيف العالمية الرئيسية الأربع بتخفيض التصنيف السيادي للولايات المتحدة من AAA وهو تصنيف مرتفع، حيث سيطال هذا الإجراء في حالة حدوثة ثوابت الاستثمار الأميركية التي كانت مثالية وآمنة على مدى العقود الستة الماضية. ونخص بالذكر هنا سندات الخزانة الأميركية التي تستثمر فيها مختلف بلدان العالم بقطاعيها العام والخاص، إذ إن تخفيض التصنيف السيادي للولايات المتحدة سيصيب قيمة هذه السندات بكارثة حقيقية. وإذا كانت تداعيات الأزمة السابقة قد أصابت الاستثمارات الأجنبية بالولايات المتحدة في القطاعين العقاري والمالي بصورة أساسية، فإن الأزمة القادمة فيما لو حدثت ستكون شاملة، وستنعكس بصورة أكثر شدة على الاقتصاد العالمي. وفي كل الأحوال، فإن على الجميع متابعة أوضاع الاقتصاد الأميركي بعيون فاحصة خلال الأشهر الخمسة المتبقية من العام الجاري، التي ستكشف العديد من الحقائق وتبين بصورة أوضح اتجاهات سير الاقتصاد الأميركي وأزمات منطقة "اليورو" والوضع الاقتصادي العالمي بشكل عام.