ما هي دلالة المظاهرة المليونية التي تجمعت يوم الجمعة 8 يوليو 2011 في ميدان التحرير؟ هذا سؤال بالغ الأهمية، لأنه يتعلق باستجابة عشرات الآلاف، ممن خرجوا في الانتفاضة الثورية يوم 25 يناير للعودة مجدداً لميدان التحرير وغيره من الميادين "الثورية" في المدن المصرية، لاستعادة روح الثورة. ما الذي تعنيه استعادة روح الثورة؟ إنها -وفقاً للشعارات المرفوعة- تعني إسقاط النظام السياسي السابق بسياساته المعادية للشعب، وليس فقط إسقاط مبارك باعتباره رأساً للنظام، والقبض على الرموز السياسية ومحاكمتهم بتهم شتى، أهمها إهدار المال العام والفساد والتربح من الوظائف التي يشغلونها. غير أن الجماهير الثائرة التي خرجت في ميدان التحرير عبرت عن إحباطها من التباطؤ في محاكمة الرئيس السابق ونجليه ورموز النظام السياسي. بل إن بعض التيارات السياسية الممثلة لشباب الثوار عبرت عن خشيتها من أن يكون هناك تواطؤ لعدم محاكمة المفسدين وليس مجرد تباطؤ. وليس ذلك فقط بل لقد رفعت شعارات تدعو لتطهير مؤسسات الدولة من فلول "الحزب الوطني" المنحل، على أساس أنه إن لم يتم التخلص من هؤلاء فمعنى ذلك استمرار سياسة النظام السابق. وبعبارة موجزة فهناك اتهامات شتى موجهة لحكومة "عصام شرف" التي فشلت في اتخاذ قرارات فورية وحاسمة فيما يتعلق بأسر الشهداء والمصابين، بالإضافة إلى ترددها في التعامل بحسم في قضية إعادة هيكلة وزارة الداخلية، والقضاء على الانفلات الأمني، وعدم وفائها بالعهود التي قطعتها على نفسها بصدد تقرير حد أدنى للأجور. ومعنى ذلك أن الجماهير الثائرة في ميدان التحرير أصدرت حكمها على الحكومة بالسلبية، بل وعلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة أيضاً باعتباره السلطة السياسية العليا في البلاد. ومما يلفت النظر حقاً أن الجماهير الثائرة اتفقت قياداتها السياسية على تجاوز الخلاف الحاد بين من ينادون بالدستور أولاً، وهؤلاء المتحمسين للانتخابات أولاً، وفقاً لنتيجة الاستفتاء الدستوري. وحدث إجماع على أن يكون الشعار الرئيسي هو "الثورة أولاً" ومعنى ذلك محاولة جادة لاستعادة روح الثورة التي كادت تضيع، من جراء التباطؤ الشديد في محاكمات الرئيس السابق ورموز الفساد السياسي، ونتيجة لعدم اتخاذ إجراءات حاسمة بشأن تطهير مؤسسات الدولة من الفاسدين. وإذا أردنا أن نفهم منطق السلوك الجماهيري لهؤلاء الذين احتشدوا من قبل في المظاهرات المليونية السابقة وفي المليونية الأخيرة على وجه الخصوص، فلا مناص أمامنا من الكشف عن أعماق نفسية الثوار الذين قاموا بالثورة على النظام السابق، وهم يطمحون لإقامة نظام سياسي جديد يقوم على أسس الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. والطريق إلى بناء هذا النظام الجديد لا يمكنه أن يتم إلا عبر ممارسة ديمقراطية، دعامتها المشاركة الجماهيرية في اتخاذ القرار من ناحية، والرقابة على تنفيذه من ناحية أخرى. وهذا الطموح الديمقراطي -إن صح التعبير- يهدف في الواقع إلى ابتداع ديمقراطية مصرية خالصة، لا تطبق بالضرورة الممارسات الديمقراطية الغربية التي تقنع بصور متعددة من الديمقراطية التمثيلية Reprentative Democray. والتي تقنع بصور شتى من انتخاب ممثلين للجماهير في المجالس التشريعية المختلفة. ففي هذه الديمقراطيات على رغم شفافية ونزاهة الانتخابات التنافسية بين الأحزاب التي تتم فيها، كثيراً ما يحدث احتكار لعملية صنع القرار تقدم عليها النخب السياسية الحاكمة، حتى ولو كان ذلك ضد الدستور. ويكفي في هذا الصدد أن نشير إلى أن الرئيس الأميركي السابق "بوش الابن" استطاع ضد قواعد الديمقراطية بل ضد الدستور اختطاف النظام السياسي الأميركي عن طريق "المحافظين الجدد" الذين شغلوا المناصب الرئيسية في إدارته، وفي مقدمتهم نائب الرئيس "تشيني" ووزير الدفاع "رامسفيلد". ولذلك اتخذ قراراً عقب أحداث سبتمبر 2001 بشن الحرب على الإرهاب، وبدأها بالغزو العسكري لأفغانستان، وتبعها بالغزو العسكري للعراق، بدون أن يستشير أو يعرض شن هذه الحروب على الكونجرس كما يقضي الدستور. ومعنى ذلك أنه حتى في النظم الديمقراطية العريقة هناك مخاطر تتعلق باحتكار عملية صنع القرار، ولو أدى ذلك إلى سياسات ضارة بالأمن القومي أو بالمصالح الشعبية. والصورة نفسها نجدها في فرنسا التي يسمح نظامها الرئاسي بإعطاء سلطات شبه مطلقة لرئيس الجمهورية، وخصوصاً في ميدان السياسة الخارجية. وهذه النظرة المقارنة لاحتكار عملية صنع القرار في الديمقراطيات الغربية هي التي جعلت الجماهير المصرية الثائرة بحسها الفطري، تريد تجاوز هذه الممارسات نظراً لما عانته من احتكار عملية صنع القرار للرئيس السابق وبطانته من الوزراء ورجال الأعمال الفاسدين. ولذلك قررت هذه الجماهير ابتداع ممارسة ديمقراطية جديدة تقوم على المشاركة الشعبية في صنع القرار، عن طريق المظاهرات المليونية التي ترفع فيها المطالب الجماهيرية. غير أن هناك رغبة في الرقابة الدائمة على سلوك الحكومة. وهذه الرقابة تتمثل في الاحتجاج أولاً على التباطؤ في التنفيذ، أو على رفض بعض المطالب أو تأجيلها. ومن هنا نفهم شعارات مليونية الجمعة في 8 يوليو الماضي التي صعدت فيها الجماهير اعتراضاتها على سلبية الحكومة، وقررت الاعتصام المفتوح بل وإعلان نية العصيان المدني، إن لم تتحقق المطالب المرفوعة على الفور من خلال اتخاذ إجراءات حاسمة فيما يتعلق بمحاكمة قتلة الشهداء حتى تشفى صدور أهاليهم بل والشعب نفسه، بالإضافة إلى تطهير المؤسسات من فلول "الحزب الوطني" المنحل. غير أن هناك مشكلات جسيمة تقف دون تنفيذ هذه المطالب. فالتعجيل بمحاكمة الرئيس السابق ورموز الفساد قد يتعارض مع الإجراءات القانونية في القضاء العادي، الذي يتكون من مراحل متعددة تؤدي بالضرورة إلى البطء. وهكذا إن أرادت الجماهير الإسراع في المحاكمات، فليس هناك من سبيل إلا باللجوء إلى القضاء الاستثنائي في صورة محاكم فورية على غرار محكمة الثورة التي أقامتها ثورة 23 يوليو 1952. غير أن عقيدة الثوار عدم اللجوء إلى غير القاضي الطبيعي، كما أن من بين شعاراتهم عدم محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية. وهكذا يتبين أن الشعارات الثورية على رغم شرعيتها وضرورتها في مواجهة بطء إجراءات المحاكمة، ستصطدم مع عقائد الثوار الذين يطمحون إلى محاكمات عادلة وناجزة أمام القضاء الطبيعي. فما هو الحل إذن؟ ليس هناك من سبيل إلا وضع نظام قانوني للشرعية الثورية يضمن العدالة والمساواة، بدلاً من الشرعية القانونية المؤسسة على قوانين الإجراءات الجنائية العادية التي قد يتسم تطبيقها بالبطء، وعلى التنظيم القضائي الذي يقسم المحاكم إلى محاكم ابتدائية واستثنائية ونقض. وهذه المراحل جميعاً من حق أي متهم أن يمر في كل إجراءاتها إلى أن يصدر عليه حكم بات لا نقض فيه. ويبقى السؤال.. هل تقود المليونيات المتعددة إلى اتجاه الشرعية الثورية، أم أنه يمكن للجماهير أن تصبر على إجراءات الشرعية القانونية؟