"ما سرقة بنك بالمقارنة مع إنشاء بنك"؟ يسأل الأديب الألماني برتولد بريخت، ونعثر على جواب سؤاله في عناوين الأخبار العالمية. فالسجال الذي لا ينتهي بين أوباما والجمهوريين حول سقف الدين، هو في الحقيقة تقاسيم على العود، كذلك بيع الأقطار الأوروبية ممتلكاتها العامة، وارتفاع أسعار المواد الغذائية في جميع البلدان. والتقاسيم على عود النظام المصرفي الدولي المنهار عقدة الأفاعي في الأزمة المالية العالمية. اليونان هذا البلد الجميل، و"الجمال قاسٍ، أنت لا تتفحصه، بل هو الذي يتفحصك ولا يغفر"، يقول ذلك الروائي اليوناني نيكوس كازنتزاكي. وكيف يغفر البلد الذي يعتبره الغرب مهد حضارته، وتُباع الآن ممتلكاته العامة لتدبير 50 مليار يورو في غضون ثلاث سنوات المقبلة؟ 1400 جزيرة يونانية ساحرة معروضة للبيع، عدد سكان كثير منها لا يزيد عن 200 نسمة، وللبيع موانئ اليونان الرئيسية "بيريه" و"سالونيك"، و39 مطاراً، بينها مطار أثينا، وللبيع مصلحة البريد العامة، وخدمات الماء والكهرباء والغاز، وملايين الأمتار المربعة من سواحل اليونان الساحرة. وهل هناك إفلاس كمشاريع إنقاذ إيرلندا من الإفلاس؟ مطاراتها الدولية معروضة للبيع، وكذلك الموانئ، ومحطات الطاقة، وحتى مجموعة خيول وكلاب السباق المشهورة، والخطوط الجوية، وشبكات النقل العام، والغابات. هجوم المعارضة في برلمان إيرلندا على ما اعتبرته بيع الدولة بالتجزئة لم يكن سبب وقف عملية البيع، بل السبب أزمة سوق العقارات، ومن يشتري في الأزمة التي خلقتها المصارف خمسة مصارف إيرلندية كفلتها الدولة من الإفلاس؟ وإسبانيا التي يفترض أن تكون في وضع أفضل تحت حكم الاشتراكيين تعرض للبيع مطارات في مدن عدة، بينها مدريد وبرشلونة، ومعها ما يعتبر أكبر لعبة "يانصيب" سنوية في العالم "كريسماس ألغوردو" الذي يجلب الفرحة وملايين اليورو للرابحين المحظوظين. والبرتغال التي يقول عنها الشاعر وليام شكسبير "هواي كخليج البرتغال لا قاع له"، تبيع الآن موانئها البحرية والجوية، وخدمات الكهرباء والماء والطاقة العامة، وشبكات الاتصالات والراديو والتلفزيون، ووكالة الأنباء الوطنية، إضافة إلى الخطوط الجوية، وبنك التأمين، وبنايات حكام المحافظات. وجميع الدول المذكورة، إضافة إلى إيطاليا وبريطانيا، تبيع موجات الأثير بالمزادات العامة، ومعها إدارات المرور الجوي، ولولا خطر الانتفاضة الشعبية لما تراجعت لندن عن بيع 150 ألف هكتار من الغابات. حجم مديونية هذه الدول للمصارف تجعل اليأس العام أملاً يضحك له ضحاياه، وتجعلنا نحن المراقبين من خارج اللعبة نضحك مرتين. فجميع هذه البلدان تبيع ممتلكاتها العامة لمواجهة ديونها المتراكمة التي لم يسببها هدر شعوبها أو تبذير حكوماتها، بل خلل النظام المصرفي المتهاوي. وعلى خلاف التصور الشائع، فالمصارف الخاصة، وليس الدول، هي التي تقوم بإصدار النقود على شكل قروض. وقد تنامت قوة النظام الخاص لإصدار هذه النقود عبر قرون، وتتحكم اليوم بالحكومات على الصعيد العالمي. إلاّ أن النظام المصرفي يحمل بذور دماره، ومصدر قوته هو تكوينه الفتاك نفسه القائم على نظام الفائدة الذي يعتبره المسلمون "الربا" المحرمة. تشرح الباحثة الاقتصادية الأميركية إيلين براون طريقة عمل هذا النظام الذي لا يُلزم المصارف بإنفاق الفوائد، بل يوظفها في مراهنات مالية بعيداً عن متناول المقترضين، فلا تتاح لهم فرصة استعادتها لتسديد ديونهم. ويواصل النظام لعبته الأبدية في خلق مزيد من القروض المصرفية، ومزيد من الديون، مع مزيد من الفوائد. والنقود التي تقرضها المصارف ليست من أموال المودعين، لأنها لو فعلت ذلك فلن يتم إصدار نقود جديدة. يوضح ذلك كتيب "المصرف الاحتياطي الفيدرالي" في شيكاغو، الذي يشرح كيف تصنع المصارف النقود كقروض يجري تحويلها على شكل صكوك إلى بنوك أخرى، وتتقبل عند تقديم القروض كمبيالات لقاء سلف محولة إلى حسابات المقترضين، وتعود تقترض مجدداً النقود التي صنعتها، وتربح بذلك الشريحة المتحصلة بين معدلات الفائدة. ابتدع هذه العملية "الشاطرة" صاغة الذهب في القرن السابع عشر. فالناس الذين كانوا يأتمنون حفظ مصوغاتهم لدى الصاغة يُعطَون وصولات تسمى "بنكنوت". وكان الناس الذين يقترضون من الصاغة يقبلون أوراق "البنكنوت" لأن حملها أسهل وأكثر أماناً من النقود الذهبية. وبدأت اللعبة عندما أدرك الصاغة أن 10 في المئة فقط من مودعي المصوغات يأتون في وقت واحد. وهذا يعني إمكانية طباعة أوراق "بنكنوت" عشرة أضعاف الذهب المحفوظ. وأصبح ذلك أساس عمل "بنك إنجلترا" الذي تأسس عام 1694، وشرع بتسليف أوراق "البنكنوت" التي يصدرها للحكومة، والتي لم يكن عليها سوى دفع الفوائد عن قيمة الدين الذي يجري تدويره إلى ما لانهاية. ويستمر العمل بهذه القاعدة حتى اليوم في الولايات المتحدة، حيث يشكل الدين الفيدرالي الذي لم يدفع قط أساس الذخيرة النقدية للبلد. وهذا "البنكنوت" هو أصل المنتجات والسلع المصرفية، بما فيها سندات التأمين، و"المستقبليات"، و"المشتقات"، التي يبلغ تداولها ترليونات الدولارات. كل ما في هذه الألعاب الخطيرة نكات، وكل ما في هذه النكات ألعاب خطيرة، واللاعبون هنا -كما في سباق الخيل- لا يملكون الخيول التي يراهنون عليها، لكن عندما تقع الخسارة تنفجر أمُّ الفقاعات العالمية، كما حدث مع "المشتقات" التي بلغت خسارتها 500 تريليون دولار نهاية عام 2007 . سر دوام هذه الألعاب عبر القرون هم أصحاب "الريع"، أو "المرَيّعين" حسب التعبير العراقي الدارج. ولينظر من يتهم البلدان العربية المنتجة للنفط بالعيش على الريع كيف يشلّ "المرَيّعون" الحياة السياسية في أوروبا والولايات المتحدة على حد سواء. يذكر ذلك عالم الاقتصاد الأميركي بول كروغمان الحائز على "نوبل" عام 2008، ويثير الدهشة حديثه كالماركسيين الثوريين عن "سلطة المرَيّعين" الذين يخدم مصالحهم بشكل حصري تقريباً صانعو القرار السياسي. هذه الطبقة مسؤولة عن إقراض مليارات الدولارات بشكل غير حكيم غالباً إلى الراغبين بشراء المنازل التي تباع اليوم لعجزهم عن تسديد أقساط القروض، فيما يتمتع "المرَيّعون" بالحماية على حساب الجميع. ينعمون بالحماية ليس فقط لتبرعهم بمبالغ كبيرة في الانتخابات، بل أيضاً لحظوتهم لدى صانعي القرار السياسي الذين يعمل كثير منهم لدى "المرَيّعين" عندما يغادرون الحكومة. وقد لا يشكل هذا فساداً صريحاً، إلاّ أن محاولة حماية "المرَيّعين" من كل خسارة يلحق أكبر الضرر بكل الآخرين، ولا يجد كروغمان أيّ فرصة للإصلاح إلّا بالكف عن هذه اللعبة. أيها الغرب المفلس، لا تحرق ربيع العرب بل تغيّر معهم، و"الإنسان يحتاج إلى قليل من الجنون، وإلاّ فإنه لن يجرؤ قطّ على قطع الحبل والانطلاق حراً" - كازانتزاكي.