عند التأمل في قرار أوباما القاضي بسحب 33 ألف جندي أميركي من أفغانستان بحلول سبتمبر من السنة المقبلة، و68 ألف جندي مع نهاية 2014، ربما تتعين قراءته ضمن سياق التحولات الطارئة على السياسة الخارجية والخريطة الأمنية للولايات المتحدة، وهي التحولات والظروف المستجدة التي تتوزع بين تغيير المسؤولين في قمة هرم المؤسسة الأمنية الأميركية، والضغوط المالية التي تعاني منها الموازنة العامة، هذا فضلًا عن تغير سياسات بعض الدول الأساسية، وما يشهده تنظيم "القاعدة" من تخبط في الوقت الراهن. والحال أن تعيين "ليون بانيتا" على رأس وزارة الدفاع، فيما ينتظر أن يتولى الجنرال "ديفيد بتراوس" إدارة وكالة الاستخبارات المركزية، هذا في الوقت الذي أصبح فيه الجنرال "مارتن ديمبسي" رئيساً لهيئة الأركان المشتركة، وحتى كلينتون التي اعتقد الجميع أنها ستبقى في منصبها أعلنت عن نيتها مغادرة وزارة الخارجية خلال العام المقبل، ومن الواضح أن الرجال الثلاثة الجدد الذين يقودون السياسة الأمنية للولايات المتحدة سيشرفون على تنفيذ خطة أوباما للانسحاب من أفغانستان وضمان تحقيق أهدافها. ولو فاز أوباما بولاية ثانية في الانتخابات الرئاسية المقبلة، فمن المرجح أن يخلف السيناتور جون كيري، الوزيرة كلينتون على رأس وزارة الخارجية. ولكن إذا عجز أوباما عن تأمين ولاية ثانية، وانهزم أمام مرشح "جمهوري" فقد يفقد الثلاثة مناصبهم على أن يتم التداول فيمن سيتولى رئاسة الدبلوماسية الأميركية، علماً بأن تغيير الأشخاص يستتبع تغيير الأسلوب، وربما حتى السياسات والتوجهات العامة. وبإعلان الانسحاب من أفغانستان يكون أوباما قد وفر فرصة لادخار أموال مهمة للخزينة العامة في وقت يواجه فيه العديد من الأميركيين صعوبات اقتصادية جمة. وهو التوجه الذي كان وزير الدفاع المنصرف، روبرت جيتس، قد أطلقه عندما انتهج سياسة خفض النفقات العسكرية وحذر من تقليصات إضافية في موازنة الدفاع، ومع تقليص التواجد الأميركي في أفغانستان ستتزايد وتيرة الدعوات المطالبة بخفض موازنة الدفاع، لاسيما بعد تصريح أوباما المعلن عن الحد من التدخلات الأميركية في الخارج. والأمر لا يقتصر فقط على الضغوط المالية، بل يتعداها إلى التغييرات في طبيعة أعداء أميركا المحتملين. فبعد انتهاء الحرب الباردة لم تعد روسيا تتصدر التهديدات المحدقة بالأراضي الأميركية، وبناء على ذلك فقد تراجع اهتمام مؤسسة الدفاع بالخطر الروسي. هذا في الوقت الذي تمثل فيه القوة العسكرية المتصاعدة للصين مصدر قلق دائماً لـ"البنتاجون" ليس لأن الصين قادرة على شن هجوم على الأراضي الأميركية، بل لإمكانياتها البحرية المتزايدة، واحتمال تعرضها للأساطيل الأميركية المنتشرة في محيطات العالم وبحاره. ولكن يبقى الخطر الأكبر على الأمن الأميركي هو دول أخرى مارقة، لا يمكن التنبؤ بتصرفاتها، ولا يمكن الوثوق أبداً بالأهداف السلمية لبرامج تسلحها، أو برامجها النووية، ولذا يتعين على أي رئيس أميركي النظر جديّاً في احتمال الدخول في مواجهات مع تلك الدول، التي يخشى أيضاً أن تقوم إحداها بتقديم سلاح نووي لجماعة إرهابية تستخدمه ضد الولايات المتحدة. وهنالك دول أخرى غير مارقة، مثل باكستان، يختلف الوضع بالنسبة لها وإن كان مثيراً لبعض القلق، إذ على رغم تأكيد المؤسسة العسكرية الباكستانية أن ترسانتها النووية تحت حراسة مشددة وبعيدة عن أيدي الإرهاب، تبقى الاختراقات الأخيرة التي تعرضت لها قواعد عسكرية باكستانية واستهدافها من قبل الإرهابيين مصدر قلق حقيقيّاً بالنسبة للقيادة الأميركية. فعلى مدى السنوات الماضية تأرجحت باكستان بين الحكمين المدني والعسكري ويعد الاستقرار فيها هشاً وغير مضمون، كما أن التجاذب التقليدي بينها وبين الهند دعاها إلى الموازنة في تحالفاتها بين الولايات المتحدة والصين. وإذا كانت باكستان حريصة على استقرار جارتها الغربية، أفغانستان، وعدم سقوطها في الفوضى انسجاماً مع السياسة الأميركية التي لا تريد الفوضى لأفغانستان، إلا أن الأهداف متباينة بشكل واضح بين أولويات واشنطن وأولويات إسلام آباد، ويبدو هذا التباين واضحاً بالنظر إلى تركيز واشنطن على استقرار أفغانستان حتى لا يؤثر ذلك سلباً على باكستان وتسقط أسلحتها النووية في أيدي الإرهاب. وبالعودة إلى الدول المارقة، على رغم صعوبة التعامل معها، يبقى الأمل مع ذلك قائماً في إدراكها أن أي تعاون مع أطراف إرهابية من خلال مدها بالسلاح النووي سيجلب عليها الكارثة. وأخيراً تظل "القاعدة" أيضاً على رغم مقتل زعيمها، وتعرضها لضربات متتالية، خطيرة وربما قادرة على استهداف المصالح الأميركية من خلال فروعها المتعددة في الصومال واليمن وغيرهما. ولحزمة الأسباب هذه، وبالنظر إلى المتغيرات المذكورة، فقد تبدلت الطريقة التي ستشن بها أميركا حروبها القادمة، إذ لم يعد الأمر يتعلق بساحات للمعارك ينخرط فيها الآلاف من الجنود، بل تحولت إلى حرب تشارك فيها الطائرات بدون طيار والوحدات الخاصة لمكافحة الإرهاب، فضلاً عن الصراع الدائم في مجال الاستخبارات وإدارة العمل السياسي. ولكن التغيرات الطارئة على الخريطة الأمنية الداخلية بالولايات المتحدة، وتجدد الأخطار القديمة مع ما يستدعيه ذلك من الحاجة إلى مواكبة التفكير الاستراتيجي الأميركي لهذه التغيرات، ينبغي ألا يعني أبداً التفريط في القدرات الحقيقية للجيش الأميركي وإهمال الاستثمار في المعدات العسكرية القادرة على مواجهة تحديات المستقبل. فالصين على سبيل المثال لا تترك فرصة تمر دون توسيع جيشها وتطوير أسلحتها. كما أن ضرورات التدخل في البؤر المتوترة، على رغم إعلان أميركا التقليل من مغامراتها العسكرية المكلفة، تفرض هي أيضاً درجة عالية من الجاهزية العسكرية الأميركية، سواء تعلق الأمر بتأهيل ناقلات الجند البحرية والجوية، أو سرعة الانتشار في مناطق بعيدة. ولعل الدليل الأبرز على ذلك ما يواجهه الآن حلف شمال الأطلسي من بطء شديد في حملته العسكرية على ليبيا، بسبب غياب أميركا عن المشاركة الفعلية في الغارات الجوية، وتململ العديد من القوى التي بدأت تتثاقل من تحمل المسؤولية، فلو أن الطائرات الأميركية شاركت في كل الطلعات الجوية ووظفت قوتها الكاسحة هناك لما استطاعت قوات القذافي البقاء لهذه الفترة الطويلة. جون هيوز كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"