على غرار كثير من البلدان النامية تستورد جمهورية هايتي معظم غذائها من الخارج. فمن أصل الـ31 مليون بيضة التي يتناولها السكان سنويّاً، يتم استيراد 30 مليوناً منها من جمهورية الدومينيكان المجاورة. كما ينفق هذا البلد، الذي يحيط به البحر الكاريبي من ثلاث جهات، ما قيمته 10 ملايين دولار سنويّاً لاستيراد ضعف كمية السمك التي يستطيع اصطيادها أو تربيتها. والواقع أن حل مشكلة استيراد الغذاء بمزيد من الإنتاج الزراعي يصطدم بعدد من المشاكل، ذلك أن تضاريس هايتي جبلية في معظمها، والأراضي الصالحة للزراعة قليلة ونادرة. كما أن ذلك البلد الذي يبلغ عدد سكانه 10 ملايين نسمة، والمفتقر للتراب، يتوفر على موارد مائية محدودة للغاية. ذلك أن كل قطرة من الماء العذب تقريباً تذهب للسقي، كما أن تزايد عدد السكان يضع ضغطاً إضافيّاً على تلك الموارد. وتصف الأمم المتحدة هذا الشح المزمن في الأراضي الزراعية والمياه العذبة بأنه "شديد"، مما قد يهدد باضطراب وحرب أهلية. وعلاوة على ذلك، فإن نظام حيازة الأراضي المعقد في هايتي يساهم هو أيضاً في الحد من إنتاج زراعي أكبر. ذلك أن معظم المزارعين فلاحون لا يمتلكون الأراضي التي يفلحونها. وبالتالي، فإن من شأن اجتراح "ثورة زرقاء" أن يمد هؤلاء الناس الذين لا أرض لديهم بقطعة من البحر، ومصدر للبروتين هم في أمسِّ الحاجة إليه. وعلى الصعيد العالمي، تتم تربية نصف كمية الأسماك التي يستهلكها البشر في مزارع وأحواض اليوم. وتعد هذه الطريقة هي أسرع شكل لإنتاج الطعام نموّاً في العالم، وتقوم على إنتاجية أكبر للبحر مقارنة مع الأرض. وعلاوة على ذلك، فإن أيّاً من موارد المياه العذبة الثمينة لهايتي لن يكون لازماً من أجل تربية الأسماك من البحر. غير أن من المهم هنا تمييز نوع تربية الأسماك المناسب لهايتي. ذلك أن مزارع الأسماك الساحلية تضاعفت حول العالم خلال العقود الثلاثة الأخيرة وولدت عدداً من المشاكل مثل تلويث المياه ونمو الطحالب، وبرك "الروبيان" التي تنتج عن اجتثاث غابات "المانجروف" في جنوب شرق آسيا والمكسيك، وغير ذلك من مشكلات مزارع تربية الأسماك المكتظة التي تنشر الأمراض والطفيليات بسهولة بين أسماك الأحواض. وهو ما يجعلنا أمام طريقة واحدة ناجعة لتربية الأسماك أخذت تنتشر في العالم بشكل متزايد، يتم تطويرها بعيداً عن السواحل، حيث تتم الاستفادة من التيارات البحرية لتربية أسماك ليست محتجزة في خلجان ملوثة. وتقوم هذه الطريقة على وضع أقفاص في مياه البحر بعيداً عن الساحل حيث تتولى التيارات مهمة جرف النفايات بسرعة. ومما لاشك فيه أن من شأن تربية الأسماك البحرية في المحيطات المفتوحة أن تفعل الكثير لتوفير الأمن الغذائي لو تم تبنيها في بلدان ساحلية فقيرة. فهايتي مثلاً لديها 1100 ميل من السواحل، ومن شأن تربية الأسماك على نحو سليم وطبيعي أن تنمي اقتصاد هايتي الفلاحي وتدعمه. وباعتبارها مصدراً للبروتين الحيواني، فإن أسماك التربية هبة من الله في عالم أصبحت كمية الحبوب المتاحة فيه محدودة؛ ذلك أنه لابد من سبعة كيلوجرامات من الحبوب لإنتاج كيلوجرام واحد من لحم البقر، في حين أنه لا يلزم سوى كيلوجرامين من الحبوب لإنتاج كيلوجرام واحد من السمك. كما أن السمك يتفوق على الماشية أيضاً من حيث الكمية التي تُستهلك فعليّاً من كل منهما على موائد البشر، لأنه يتوفر على كتلة أكبر قابلة للأكل. ذلك أن حوالي 65 في المئة من الوزن الخام للأسماك ذات الزعانف يؤكل، مقارنة مع 50 في المئة بالنسبة للدجاج. ثم لنتأمل كذلك آلاف جالونات المياه العذبة اللازمة لإنتاج كيلوجرام من الغذاء على الأرض، والتي يمكن توفيرها من خلال الإنتاج البحري لأنواع حيوانية. وعلاوة على ذلك، فإن تربية الأسماك البحرية أقل تأثراً بتأثيرات تغير المناخ مقارنة مع الزراعة. ففي وقت تواصل فيه درجات الحرارة ارتفاعها في العالم، فإن مستويات المياه الجوفية أخذت تنخفض بسبب زيادة حجم المياه المستخرَجة من أجل سقي الزراعة على كوكب ما فتئ يزداد سخونة. والواقع أن من شأن صناعة فعالة لتربية لأسماك البحرية أن تمنح هايتي امتيازاً تنافسيّاً في صناعة الغذاء العالمية التي تعرف نموّاً سريعاً، بموازاة مع تخفيف الضغط على مواردها المائية البحرية والزراعية الطبيعية. غير أن أكبر تحدٍّ هو تعليم الهايتيين اغتنام هذه الفرصة، وتدريب قوة عاملة لبدء صناعة جديدة في هذا المجال. وفي هذا الإطار، من المتوقع أن تأتي مجموعة من الهايتيين إلى ولاية فلوريدا الأميركية الخريف المقبل من أجل تعلم المبادئ والقواعد الأساسية للعلوم البحرية وزراعة الأسماك المستديمة في المحيط المفتوح. وستوفر هذه الدورة المكثفة التي ستمتد على مدى أسبوعين تدريباً تطبيقيّاً في تربية الأسماك، وكل ما يتعلق بالأقفاص -كيفية تركيبها، ونشرها، وصيانتها، وما ينبغي فعله في حالة هبوب إعصار مثلاً. كما سيمد هذا البرنامج الهايتيين بالمهارات والمعرفة اللازمين لإدارة مشاريع تربية الأسماك البحرية في بلدهم، الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى إطلاق عمليات إنتاج على نحو تجاري. وإذا حالف الهايتيين النجاح في صناعة تربية الأسماك البحرية بعيداً عن الساحل، فبالإمكان القول إن بلدهم يمكن أن يحل مشكلة استيراد الغذاء وسوء التغذية التي يعانيها سكانه. وحينها، سترقى هايتي إلى تلك الرؤية التي عبر عنها المستكشف وعالم البحار الفرنسي "جاك كوستو" قبل ثلاثة عقود: "يجب أن نلتفت إلى البحر بفهم جديد وتكنولوجيا جديدة. علينا أن نستغله مثلما نستغل الأرض". ------- فيل كروفر - لونج بيتش، كاليفورنيا ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور