في يوم السبت الماضي الموافق التاسع من يوليو 2011 أعلن رسميّاً استقلال جنوب السودان. وتتوزع المرء اعتبارات الفرح بأن شعباً مظلوماً قد استطاع أخيراً أن يخطو خطوة مهمة نحو رفع الظلم، ودوافع الأسى بسبب تمني لو أن الظلم قد رفع داخل سودان موحد، ولكن إعلان استقلال الجنوب جاء شهادة دامغة على الإخفاق العربي عامة والسوداني خاصة في إدارة "التنوع" القائم في الوطن العربي، ولعل "أركو مناوي" قد قارب الصواب كثيراً عندما لخص أسباب استقلال الجنوب في "أزمة الحكم في السودان منذ الاستقلال حيث الهوية... التي لا تعبر عن جميع شعوب السودان، والثقافة الأحادية المفروضة، وسوء استغلال موارد البلاد وانعدام التنمية العادلة، وحروب المركز ضد الهوامش التي استهدفت شعوب السودان في الجنوب ودارفور والشرق وجنوب النيل الأزرق وكردفان والشمال الأقصى، وانعدام المواطنة المتساوية لجميع المواطنين، ونقض العهود والمواثيق كسمة دائمة التصقت بأنظمة الحكم المتعاقبة منذ الاستقلال...فأدت بالمحصلة إلى جعل الوحدة طاردة ومنفرة لشعب جنوب السودان وجميع شعوب الهامش السوداني، فاختار شعب جنوب السودان الاستقلال بدولته التي ستحقق له الكرامة والأمل في حياة حرة وكريمة وآمنة"، بل إن الموافقين على الاستقلال في الاستفتاء الذي أجري في التاسع من يناير الماضي قد تجاوزت نسبتهم كما هو معلوم 99%. ليس إعلان استقلال دولة الجنوب حدثاً عاديّاً، وإنما ستكون له تداعياته بالنسبة للسودان خاصة والمنطقة عامة، وهي تداعيات تحتاج إلى تبصُّر وسعة أفق. وأولى التداعيات على "السودان" نفسه بمعناه الجغرافي، أي في الشمال والجنوب معاً، وليست المٍسألة الأساسية هنا أن شمال السودان سوف يفقد جزءاً من دخله النفطي كما قد يتصور البعض، وإنما الأهم أن استقلال الجنوب قد يمثل سابقة لأقاليم متمردة داخل ما تبقى من السودان في الشمال، وخاصة أنه لا يبدو حتى الآن أن ثمة تفكيراً في إحداث تغيير حقيقي في النظام القائم، فلا توجد تحركات شعبية ضاغطة تنادي بذلك، فضلاً عن عجز القوى السياسية التقليدية عن إحداث التغيير المطلوب، ويعني هذا إن استمر الحال على ما هو عليه أن الأساليب نفسها ستستخدم في إدارة ما يتعرض له شمال السودان من أزمات راهنة، وهي الأساليب التي أفضت في النهاية إلى استقلال الجنوب. من ناحية أخرى لا ينبغي أن ننسى أن ثمة مشاكل ما تزال عالقة بين دولتي السودان في الشمال والجنوب، وعلى رغم حرص الشمال على أن يكون أول المعترفين بدولة الجنوب، وحرص رئيسه على حضور احتفالات استقلال الجنوب وإلقاء كلمة فيها تؤكد على التعاون بين الدولتين، وتعهد الرئيس الجنوبي أيضاً في خطابه بهذه المناسبة بحل تلك المشكلات سلميّاً، فإن سيناريو العجز عن وضع هذه النوايا موضع التطبيق -بافتراض صدقها أصلاً- يبقى مطروحاً، وساعتها سيحدث، لا قدر الله، مزيد من استنزاف الشمال والجنوب معاً في صراعات مسلحة دامت بينهما على مدار ما يزيد عن نصف قرن. وهناك، ثالثاً، قضية مياه النيل التي تهم مصر وكلاً من شمال السودان وجنوبه، وستكون دولة الجنوب هي الأقدر على التحكم ولو النسبي في تدفق المياه إلى شمال السودان ومصر، وعلى رغم التصريحات المطمئنة التي أدلى بها الرئيس الجنوبي في مناسبات سابقة ومؤداها أن الجنوب لا يمكن أن يحرم مصر من قطرة مياه واحدة فإن موقف دولة جنوب السودان من المسألة المائية ما زال غامضاً، أو لنقل إنه لم يوضع موضع التطبيق أو يختبر، وليس مؤكداً هل يختار الجنوب أن يكون هناك ترتيب ثلاثي يجمع مصر وكلاً من شمال السودان وجنوبه يعالج مشكلة قسمة المياه؟ وهل يستجيب بسهولة للمشروعات المائية التي تتحمس لها مصر لزيادة إيرادات نهر النيل وبالتالي التخفيف من صعوبات القسمة الجديدة، أم أنه سيفضل أن ينضم إلى الاتفاقية الإطارية التي تضم باقي دول حوض نهر النيل وتتحفظ عليها كل من مصر وشمال السودان، فتكون المسألة مدعاة لتوتر في العلاقات داخل هذا المثلث؟ وتأتي بعد ذلك التداعيات على النظام العربي، ويلاحظ بداية أن هذه أول سابقة لتفكك دولة عربية رسميّاً بعد استقلالها، إذا استثنينا تجربة الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا (1958-1961) باعتبار أن لها خصوصيتها، وأن تفككها قد عاد بدولتيها كلاً إلى حدودها عقب الاستقلال. بل على العكس فإن النظام العربي في مرحلة التحرر الوطني وقبلها قد شهد عمليات وحدوية ما زالت قائمة حتى يومنا هذا (الحالة السعودية- الحالة الليبية- الحالة الإماراتية- الحالة اليمنية). فهل يكون استقلال جنوب السودان نذير شؤم على النظام العربي من هذا المنظور؟ وخاصة أن إخفاق النظم السودانية المتعاقبة في إدارة التنوع داخل السودان الموحد يقابله إخفاق عربي عام في حالات أخرى لعل العراق أهمها، وذلك بالإضافة إلى انشقاقات قائمة أو محتملة بسبب عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية (حالات الصومال وفلسطين ولبنان واليمن). فهل يكون استقلال جنوب السودان محفزاً لعوامل التفكك داخل الدول العربية؟ وقد يتصل بالتداعيات على النظام العربي موقف إسرائيل من استقلال الجنوب، وقد كان علمها حاضراً على أية حال في احتفالات الاستقلال، ومن المعروف أن إسرائيل كانت على علاقة طيبة مع قادة الجنوب إبان حركة التحرر من حكم الشمال، وأن الرئيس الجنوبي قد صرح قبل شهور من استقلال بلاده بأن جنوب السودان ينوي إقامة علاقات مع إسرائيل، حيث لا توجد مشكلة بين الشعبين في إسرائيل والجنوب تماثل المشكلة الفلسطينية على سبيل المثال. ويعني هذا أن إسرائيل ستكون أكثر حضوراً وتأثيراً في جنوب السودان بعد إعلان الاستقلال، وهي مسألة لا يمكن للمرء أن ينكرها على هذه الدولة في ظل وجود علاقات دبلوماسية وتجارية بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، والتواصل بين السلطة الفلسطينية والسلطات الإسرائيلية في مسألة المفاوضات وغيرها، ولكن التحسب للتغلغل الإسرائيلي في جنوب السودان يبقى ضروريّاً. ويؤكد كل ما سبق أن استقلال جنوب السودان ليس بالفعل حدثاً عاديّاً، وإنما هو حدث له تداعياته المهمة، وتتطلب مواجهة هذه التداعيات من الأطراف المعنية جهداً دؤوباً كي لا تؤدي إلى الإضرار بمصالحها الحيوية. أما شمال السودان فيتعين عليه العمل بشتى السبل على ضمان حل المشكلات العالقة مع الجنوب بالطرق السلمية، والاستفادة من تجربته الفاشلة في معالجة أزمة الجنوب في إدارة المشكلات الداخلية الخطيرة التي يواجهها. وأما مصر فلديها القدرة على أن تقوم بنشاط حقيقي لصالح شعب الجنوب سواء في مجال تقديم الخدمات أو في تنمية استثماراتها الاقتصادية والثقافية في جنوب السودان، وتقديم نموذج متميز يستند إلى مبدأ العدالة في المفاوضات الواقعة لا محالة حول قسمة المياه. أما النظام العربي فعليه أن يحتضن دولة الجنوب سواءً بقبولها عضواً في جامعة الدول العربية، أو على الأقل عضواً مراقباً، وفتح الباب أمام استثمارات عربية مؤثرة فيها. وأخشى ما يخشاه المرء أن يحدث هذا كله في البداية كردة فعل حماسية للحدث، ثم يبدأ الاهتمام في التلاشي تدريجاً بحيث ينتهي إلى لا شيء كما حدث أثناء التدافع السابق نحو ضرورة "جعل الوحدة خياراً جاذباً".