أطل الرئيس اليمني "علي عبد الله صالح" على المشهد السياسي بعد شهر من مغادرته للبلاد طلباً للعلاج في المستشفيات السعودية. لم يحمل خطاب صالح جديداً، ولم تكن له آثار نوعية على الأزمة الداخلية المتفاقمة التي تنذر بشتى المخاطر، بما فيها تفكك اليمن ودخوله حرباً أهلية طويلة المدى، مجهولة الأفق. والواقع أن التحليلات السياسية الرائجة التي تتحدث عن "الثورات العربية" بإجمال دون تمييز أو تدقيق، لا تراعي خصوصية الحالة اليمنية التي لا يمكن إغفالها في أي نظر موضوعي لمسار الثوران العربي الراهن. وأهم مظاهر تلك الخصوصية هو مفارقة الانسجام الديني والقومي العالي وديناميكية التصدع الثابتة. فالمجتمع اليمني هو أكثر المجتمعات العربية انسجاماً بمنظور مقاييس التجانس التي اعتمدتها الدراسات الاجتماعية، لا تكاد توجد فيه أقليات عرقية أو دينية، وحتى المعادلة السنية- الزيدية ليست مظهراً لتنوع طائفي بالمعنى الدقيق للعبارة بالنظر لصلات القرب والتداخل المعروفة بين المذهب الزيدي والمذاهب السنية. ومع ذلك، ليس ثمة مجتمع عربي شهد من أحداث الفتنة والاحتقان والعنف الداخلي ما شهده المجتمع اليمني. صحيح أن الظاهرة القبلية قائمة، جلية التأثير والفاعلية، إلا أنها ليست خاصة بالمجتمع اليمني الذي يمتلك تراثاً سياسيّاً غنيّاً وتركة طويلة للدولة المركزية. فنظام الإمامة الزيدية دام قروناً طويلة، والدولة اليمنية الحديثة استطاعت التشكل والبقاء خارج ترتيبات الجغرافيا السياسية الاستعمارية، كما استطاعت التحرر من القبضة العثمانية، وبذا تملك رصيداً وطنيّاً ثريّاً، على رغم الصورة السلبية التي كرستها الأدبيات الثورية ضد "الإمامة المتخلفة". فليست إذن الخريطة الطائفية أو القبلية هي المسؤولة عن الطابع الدموي العاصف للتاريخ اليمني المعاصر، وإن كانت من مظاهر جلاء الأزمات السياسية المتلاحقة، ومن العوامل التي جرى دوماً توظيفها في الصراعات القائمة. فالحرب الداخلية الدامية التي شهدها اليمن بعد انهيار الإمامة عام 1962 واستمرت إلى سنة 1970 لم تكن حرباً زيدية- سنية ولا حرباً مدينية- بدوية، وإنما كانت مرحلة حاسمة من حراك داخلي طويل بدا في الثلاثينيات مع بروز الحركة الإصلاحية الدستورية التي برزت بقوة بعد اغتيال الإمام يحيى عام 1948، قبل أن تتحول إلى حركة ثورية جمهورية في سياق المد القومي الذي عرفته البلدان العربية في الحقبة الناصرية. وكان الصراع في بعض أوجهه انعكاساً للتجاذبات الإقليمية السائدة أوانها داخل العالم العربي بين المحورين المحافظ والثوري. ولذا فإن ما يشاع عن الاستثناء القبلي اليمني هو في جانب كبير منه من تبسيطات المحللين السياسيين. ففضلًا عن كون المعادلة القبلية ليست متجذرة في عموم مناطق اليمن بل تتركز في الشمال، ويتقلص دورها أو ينعدم في الوسط والجنوب، فإنها تعايشت مع أصناف أخرى من الانتماءات والهويات الجماعية كالمشيخات والسلطنات والأربطة في الجنوب والنخب التجارية والعائلات المدينية في تعز التي كانت العاصمة الأولى لليمن (إلى حدود سنة 1962). وكما يبين "بول درش" في عمله المتميز حول "القبائل والحكم والتاريخ في اليمن" فإن القبيلة اليمنية ليست كتلة انتماء جامدة أو منسجمة بل تتشكل وفق خطين متعارضين متلازمين: خط التكتل والاندماج، وخط الانقسام والتفكك. فالمجموعات القبلية الكبرى (حاشد وبكيل ومذحج..) هي في واقع الأمر تكتلات عصبية غير نسبية، في حين أن كل القبائل بما فيها أصغرها تشهد بانتظام تصدعات وانشقاقات تحول دون تشكلها كأقطاب سياسية مركزية. صحيح أن المسار السياسي الحديث لليمن (الذي أشرنا إلى بعض محطاته) أفرز المعادلة التي أطلق عليها الباحث الاجتماعي الفرنسي "فرانسوا برغا" عبارة "المجتمع المدني المسلح"، أي احتفاظ القبائل بالأسلحة التي تنتشر أيضاً لدى المليشيات السياسية سواء تعلق الأمر بالسلفية السنية (القاعدة) أو الزيدية (الحوثيين) أو بالتنظيمات اليسارية الراديكالية (من فلول النظام الشيوعي السابق). ولقد قامت تجربة الانفتاح الديمقراطي في اليمن بعد الوحدة (1990) على هذه "التعددية المسلحة" من خلال الشراكة بين الأطراف الثلاثة الفاعلة في الساحة: المؤتمر الشعبي اليمني الذي يتزعمه الرئيس صالح، والحزب الاشتراكي الذي كان حاكماً في دولة الجنوب، وتجمع الإصلاح اليمني الذي أسسه "عبد الله بن حسين الأحمر" شيخ قبائل حاشد المتحالف مع التنظيمات السلفية والإسلامية. بيد أن التوازنات "المسلحة" التي حفظت الاستقرار اليمني في سنوات الوحدة الأولى انهارت تدريجيّاً، بخروج الحزب الاشتراكي من الحكومة ثم من الدولة (حرب الانفصال 1994) وبالقطيعة المتزايدة بين صالح وحلفائه القبليين- الإيديولوجيين (حزب الإصلاح) التي وصلت ذروتها بعد رحيل الشيخ الأحمر (عام 2007). ليست الثورة اليمنية الحالية إذن سوى محطة اكتمال أزمة داخلية طويلة، نشأت مع قيام النظام الجمهوري وأخذت شكلها الراهن مع الوحدة التي استبشر بها اليمنيون خيراً وراهنوا عليها أفقاً جديداً لإعادة بناء نظامهم السياسي. وعلى رغم الحضور النسبي للاعتبارات القبلية والطائفية والإقليمية (المطالب الانفصالية في الجنوب)، فإنه من الجلي أن المشهد الراهن في اليمن لا يختلف في العمق والجوهر عن حركية الثورات العربية الحالية التي استهدفت أنظمة تشبه حكم علي عبدالله صالح في القسمات الأساسية: الخلفية والقاعدة العسكرية للنظام، وطول البقاء في السلطة (منذ 1978)، والفساد الإداري والمالي، وتحكم الوسط العائلي. كما أن تركيبة المعارضة المتمحورة حول التنظيمات القومية والإسلامية واليسارية (تكتل اللقاء المشترك) لا تختلف عن تركيبة المعارضات التي أطرت وواكبت حركية الثورة الشبابية في بقية البلدان العربية. بل يمكن القول إن التيارات الانفصالية والمتشددة قد ضعفت بعد اندلاع انتفاضة الشارع اليمني، كما تعزز النسيج الوطني وبدا محصناً ضد مشهد التفكك الذي يظل خطراً قائماً إذا طالت الأزمة أو عجز الفرقاء السياسيون عن حلها. وعلى رغم تشابه المسار اليمني مع الحالة العربية العامة، إلا أن عسكرة الحالة السياسية وعجز الدولة عن احتكار العنف هو ما يشكل الاستثناء اليمني.