هل تقف روسيا والصين اليوم ضد تطلعات الشعوب العربية وثوراتها وتحت ذرائع ومسوغات مختلفة؟ هل بلدا الثورات البلشفية والماوية وقبلة ثوار العالم في النصف الثاني من القرن العشرين تحولا إلى مناصرين للديكتاتوريين وأعداء للثوار والثوريين الحقيقيين الذين ضلعوا من معاناة الناس اليومية وبحثهم عن الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وليس عن أيديولوجيا تصدرها هذه العاصمة أو تلك بهدف تعزيز نفوذها الإمبريالي أو الكوني؟ من ثورتي تونس ومصر، إلى ثورة سوريا الآن، مروراً باليمن وليبيا، انحازت روسيا والصين إلى أنظمة قائمة على الفساد والاستبداد. في ليبيا تشبثت روسيا والصين بالعقيد ونظامه المجرم إلى آخر لحظة، ولولا جنون رطانته وخطاباته التي أعلن فيها أنه على استعداد لإبادة شعبه "زنقة.. زنقة"، محرجاً أصدقاءه الروس والصينيين إلى أبعد مدى، لربما لم يكن موقف موسكو وبكين ليتحول على حياء لكي يتخلى عن النظام الأرعن. ولكن في سوريا هناك نظام أكثر دهاءً وحيلة، ففي الوقت الذي يُطحن فيه المتظاهرون في المدن والأرياف السورية، فإن خطابه يدور حول الحوار والمصالحة والإصلاح. وليس هناك مراقب يمتلك لحصافة يمكنه الاقتناع بأن نظام دمشق على استعداد لإصلاح حقيقي يتخلى فيه عن سيطرته المطلقة، فقد فات الأمر وسالت دماء كثيرة تحت الجسر. ولكن قادة موسكو وبكين مقتنعون بذلك، ويدافعون عن النظام، ويقفون إلى جانبه. وكأن صديقهم الوحيد في سوريا هو النظام القائم -حتى إشعار آخر. إن تداعيات الموقف الروسي والصيني على التحولات العربية ومستقبلاتها كبيرة جدّاً بل وقد تكون مقلقة أيضاً. وأول هذه التداعيات تمثل في تصنيع اصطفاف بدت فيه التحولات العربية والغرب في مربع واحد، بينما تقف روسيا والصين والأنظمة المعنية في مربع آخر "الممانع للسياسة الغربية". وقد أضر هذا الاصطفاف بصورة التحولات العربية التي أصبحت متهمة بأن الغرب يؤيدها، أي الولايات المتحدة وأوروبا. إن التحولات العربية الراهنة هي ثورات حقيقية بمعنى الكلمة ذلك أنها مثلت لحظات الانفجار لاحتقان طويل المدى تراكمت فيه صنوف المعاناة، مع أنماط الفساد، مع سياسات الفشل التنموي ورهن مستقبل الشعوب تحت شعارات مدمرة. ولم تكن هناك قوى خارجية أو مؤامرات أو إيديولوجيات تحرك أيّاً من هذه الثورات. بل إن قوى المعارضة التقليدية الحزبية وغيرها تفاجأت بالقدرة الخلاقة للشعوب وانتفاضاتها بنفس درجة تفاجأ الأنظمة نفسها. وبسبب سمتها هذه، أي انطلاقها من صميم الإرادة الشعبية وقوة واتساع نطاق الملتحقين بها، فقد فرضت هذه التحولات على القوى الخارجية تغيير مواقفها التحالفية مع بعض الأنظمة القائمة. ومن الطبيعي أن تحاول تلك القوى إعادة موضعة سياستها الخارجية بما يتوافق مع التغيرات التي فرضتها الثورات العربية، ولهذا رأينا التخلي الغربي الذكي والتدريجي عن تلك الأنظمة المنهارة. ورأينا الانزياح الغربي المسيس والبراغماتي من مربع التأييد والتحالف مع نظامي بن علي ومبارك إلى تأييد الاحتجاجات ضدهما. وقد استندت هذه السياسة إلى براغماتية ذكية حيث كانت تراقب وضع كل نظام على كثب وتغير موقفها تدريجيّاً بحسب احتمالات بقائه أو سقوطه، ولكنها في نهاية المطاف كانت "تقامر" بالتخلي عنه -بخلاف المواقف المتحفظة والمتلكئة لموسكو وبكين. والشيء الغريب أن هذا حدث في العواصم الغربية المؤيدة والحليفة لهما، فيما كان التردد الروسي والصيني يكبل السياسة هناك، إذ بدا البلدان وكأنهما الحليفان الأقرب لنظامي بن علي ومبارك. عوض أن تهب موسكو وبكين، براغماتيّاً على الأقل، لالتقاط فرصة تداعي النظامين (المواليين للغرب) وتأييد الاحتجاجات مباشرة ومحاولة احتلال موقع جديد في المنطقة، ولكنهما تركتا الساحة كلها لواشنطن وبروكسل. وعوض أن تتعلما الدرس من حالتي تونس ومصر ها هما تكررانه في ليبيا وسوريا واليمن. وثاني تداعيات الموقفين الروسي والصيني في شرق أوسط ما بعد التحولات العربية هو تعزيز النفوذ الغربي أكثر فأكثر، على عكس ما تريدان. ولن تستطيع الأنظمة التي تراهن عليها موسكو وبكين الوقوف أمام حركة الشارع التي يتسع نطاقها وقوتها يوماً بعد يوم. والحالة الليبية ربما كانت أكثر وضوحاً إذ قليلون فقط هم من يتوقعون بقاء العقيد أو أيّاً من بقايا نظامه في الحكم أو قريباً منه في المدى القصير. وهنا لنا أن نتوقع أن السياستين الروسية والصينية قد أخلتا الساحة للغرب، وأن ليبيا ما بعد الثورة لن تكون متاحة لمصالح موسكو وبكين كما في السابق. وفي سوريا سيتكرر السيناريو، وإن كانت الحالة أكثر التباساً، وقد تأخذ زمناً أطول. ولكن أيّاً ما كانت النهاية فإن روسيا والصين تخسران أيضاً. ولو آلت الأمور إلى السيناريو المفضل لموسكو وبكين وبقي نظام الأسد على رأس الحكم فإن ذلك لن يتم من دون تغييرات جذرية تقلب من طبيعته وشكله الراهن وقدرته على السيطرة. وإذا حدث ذلك فإن النظام سيكون هو الصديق الوحيد للبلدين، ولن تكون هناك أية مشاعر صداقة أو ود لهما على المستوى الشعبي الواسع. وقد يتم تحميل موسكو وبكين مسؤولية إفشال الثورة السورية وطعنها في الظهر، وهذا سيستمر إلى مرحلة أخرى قادمة وربما ثورة أخرى تكون نهايتها مختلفة. وفي مثل هذا السيناريو سيتغير مناخ الحريات في سوريا، كأحد التنازلات التي يقدمها للبقاء في الحكم، وفي هذا المناخ الجديد فإن التعبير الشعبي عن النقمة ضد روسيا والصين سيكون متاحاً. والنظام الذي تعود أن يقف بين الشعب وحريته في التعبير عن آرائه ربما يكون قد انتهى وعندها يمكن لروسيا والصين اختبار مدى "صداقتهما" مع الشعب السوري. أما في السيناريو الثاني، الذي يقود إلى نهاية النظام القائم، فإن الخسائر تكون أكثر جلاء على صعيد روسيا والصين -كلتاهما ستخسر منطقة نفوذ أخرى وكلتاهما سترى سياسة غربية أكثر حضوراً. وكل هذا نتيجة طبيعية لسياسة قصر نظر استراتيجي تقوم على التحالف مع أنظمة مستبدة وفي طريقها إلى الفناء في العالم كله. والخلاصة النهائية للصورة هي أنه في العالم العربي ما بعد التحولات، وفي قراءة استباقية لميزان الأرباح والخسائر للقوى الدولية، فإن الولايات المتحدة وأوروبا هما الرابحتان. وسينعكس ذلك على قضايا مختلفة في المنطقة بما فيها القضية الفلسطينية. وفي السنوات القليلة الماضية شهدنا تراجعاً شبه منتظم للدورين الروسي والصيني فيما يتعلق بقضية فلسطين. وهذا سيتفاقم عندما تفقد روسيا أوراقاً أخرى في المنطقة لا تستطيع أن تستخدمها، فتضطر لأن تستخدم التنازل في ورقة القضية الفلسطينية من أجل المقايضة في قضايا وسياسات أخرى. أما الصين المتوارية في سياساتها الإقليمية، بما في ذلك على صعيد القضية الفلسطينية. وعندما تصر المواقف العملية لموسكو وبكين على أن بعض الأنظمة المستبدة في العالم العربي هي صديقهما الوحيد، فإنهما تقرران الوقوف ضد حركة التاريخ أخلاقيّاً ومعياريّاً، وضد مصالحهما الخاصة براغماتيّاً وانتهازيّاً.