في فبراير الماضي سطرت في هذه المساحة مقالاً عن بروز نظام عربي جديد، أكدت فيه أن دولنا العربية "تتعرض لهبَّات وموجات متعاقبة من الدعوات إلى الديمقراطية والحريات واستعادة الكرامة، ولحسن الحظ ليس ذلك بسبب المحافظين الجدد، وسياسة بوش وحروبه الاستباقية التي فشلت في تحقيق أي من ذلك. تماماً مثلما أن تسونامي التغيير العربي الراهن يخالف أيضاً مقولات موجة الديمقراطية الثانية التي تحدث عنها هنتنغتون". وخلال الأشهر الماضية تغيرت بالفعل تضاريس النظام العربي بشكل غير مسبوق، وربما حتى غير متوقع، وانفتح الأفق على مستقبل آخر بديل. وهكذا انتهت في الجمهوريات العربية ظواهر الحكم المطلق الأبدي، والتوريث، وحالات الطوارئ، وتجاهل مطالب الرغيف والغلاء والكرامة. وبعد مرور ستة أشهر لا يزال الحراك والثورات العربية مستمرين وإن كانت الأحوال في العديد من الساحات العربية ما زالت تشهد الكثير من الشد والجذب والمد والجزر، حيث يستمر مخاض التغيير الذي لم يصل بعد إلى نهاياته. وفي مطلع العام الحالي لم نكن قد استوعبنا بعد صدمة وهول تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ بدءاً من السودان. وللتذكير فقد بدأ عام 2011 بالاستفتاء على انفصال جنوب السودان، ثم تلا ذلك تفجر تسونامي الثورات العربية المستمرة. وقد ودعنا إلى الأبد أول من أمس السبت 9 يوليو السودان بصفته أكبر دولة عربية مساحة سابقاً، ليصبح سودانَين، ويفقد ربع مساحته بضربة واحدة، ونصف دخله من النفط الذي يمثل 90% من مداخيله! ولتصبح بذلك الجزائر هي أكبر دولة عربية مساحة، وتجبر الجغرافيين وصناع الخرائط على طباعة أطالس جديدة لأن أطالسنا الحالية باتت قديمة. ومع اعتراف شمال السودان رسميّاً بجنوب السودان، وسحب الجنسية السودانية من المواطنين الذين انتقلوا للدولة الوليدة، ليتكرس التقسيم الفعلي وقد باركه الرئيس البشير الذي ذهب في زيارة رسمية لمباركة ولادة الدولة الإفريقية الجديدة، التي ستضاف للدول الحبيسة، المغلقة كليّاً، لعدم إطلالها على البحار. ومن هذه الزاوية تحديداً، ربما أمكن القول إن أمر جنوب السودان بالفعل غريب، فهي أول دولة تسعى وتصر على أن تولد فاشلة، بدخل أقل من 1000 دولار للفرد سنويّاً. وبلا بنى تحتية، ومجمل الطرق المعبدة لا يتعدى 50 كلم لدولة أكبر من فرنسا، من حيث المساحة! وفي مطلع هذا العام أيضاً لم يكن نظام مبارك في مصر قد سقط بعد، ولم يكن القذافي قد حوصر، ولم ينخرط بعد "الناتو" والثوار في حرب التحرير لإنهاء حكم أطول حاكم عربي معاصر فترة زمنية. وكذلك أيضاً لم يكن قد بدأ يتهاوى حكم ثالث أطول حاكم عربي وهو الرئيس اليمني، الذي تحولت بلاده إلى واحدة من الدول التي تهدد كيانها وجيرانها. وقد تعرض لمحاولة اغتيال إلى اليوم لم تتضح تفاصيلها. ولكنه ظهر قبل أيام ليدحض الإشاعات عن وفاته أو شلله، ليظهر محروق الوجه، مضمد اليدين، على رغم ثماني عمليات، مبقيّاً على تحديه وحديثه عن الشراكة والحوار، وهو في ظروف صحية صعبة، ليرد عليه الشعب اليمني فيما سمي "جمعة رفض الوصاية". وعندما بدأ العام أيضاً، والشيء بالشيء يذكر، لم تكن القيادة السورية قد استوعبت حينها حجم وعمق المأزق الذي تواجهه. ولم تتوقع كسر حاجز الخوف إلى حد أن تصل الأوضاع لما وصلت إليه اليوم، مما يضع سوريا نظاماً وشعباً على مفترق طرق. وفي مختلف عواصم الربيع العربي استمرت الُجمع تلد جُمعاً بعد كل هذه الأشهر، فخرجت في القاهرة يوم الجمعة الماضي أكبر مظاهرة مليونية منذ سقوط مبارك بمشاركة قوى سياسية مختلفة داعية إلى التطهير والقصاص وتصفية بقايا الفساد وبقايا النظام السابق... الخ. وفي تونس خرجت مظاهرات ضد الأصولية وأخرى مؤيدة للإسلاميين في انقسام شعبي واضح. وفي اليمن، كما سبقت الإشارة، جاءت الجمعة الماضية تحت شعار "رفضاً للوصاية"، وفي سوريا تحت شعار "لا للحوار"، وفي ليبيا وصلت المواجهات لحالة استنزاف واضحة بعجز أي طرف على حسم المواجهات في صراع مكلف ويخشى أن يقسم ليبيا. وقبل هذا وذاك أتى اغتيال بن لادن في مطلع مايو الماضي ليزيد من زخم وقوة التغيير الذي تشهده المنطقة، وليكشف عن ضعف وتراجع تنظيم "القاعدة" دون أن يلحق به ذلك الضربة القاضية النهائية. وكان الحراك الشعبي للثورات العربية، وسلمية التغيير التي لاحت بوادرها في تونس ومصر، وإسقاط نظامين مركزيين قويين بأقل تكلفة، قد شكل نقطة تحول غير مسبوقة في الدول العربية مؤداها القدرة على التغيير بطريقة ثالثة غير الدبابات وحروب إسقاط الأنظمة على الطريقة الأميركية، أو عن طريق العنف والإرهاب بوصفة "القاعدة". وشيئاً فشيئاً بدأت تكبر فكرة الحالة الثالثة للتغيير، أي بالحراك السلمي والثورة الشعبية، وعلى رغم تصدي النظم في ليبيا وسوريا واليمن لذلك النموذج. كما برزت طريقة أخرى لتحقيق التغيير في الدول العربية، فرأينا كيف بادر ملك المغرب بتقديم إصلاحات دستورية باستفتاء شعبي شارك فيه ثلاثة أرباع الناخبين وبأغلبية 98% صادق المغاربة على الإصلاحات والتعديلات الدستورية. وأخيراً، ترى من كان يظن أننا في مطلع هذا العام سنشهد كل هذه المتغيرات التي من شأنها أن تغير من تضاريس ووجه المنطقة للعقود القادمة؟ الحال أن زخم وقوة وتمدد تسونامي التحولات العربية أو الربيع العربي غير جذريّاً الكثير من المعطيات والثوابت واستنتاجات الدراسات الاستراتيجية وأدبيات العلاقات الدولية بل وفلسفة الثورات. ومن المفارقات الغربية أن قلة، إن وجدت، من باحثي المستقبليات وخبراء الاستشراف وأساتذة الدراسات الاستراتيجية والعلوم السياسية، توقعوا كل هذا التغيير، وبهذا العمق والزخم غير المسبوق الذي يكتسح أكثر مناطق النظام العالمي مقاومة للتغيير، وبهذه القوة والسرعة ليتغير وجه المنطقة لعقود قادمة بعد أن بقيت متكلسة خلال العقود السابقة. وحتى لو كانت تغييرات تاريخية غير حاسمة إلا أن من شأنها أن تؤسس لما بعدها، على كل حال، من كسر لحاجز الخوف وتحرر الناس وإزاحة بعض الطغاة، على رغم مخاوف التقسيم والتجزئة، حيث أصبح السودان سودانين وليبيا ليبيتين ولبنان لبنانين والعراق أكثر من عراقين واليمن مجهول المصير، والصومال أصبح بقايا دولة. وكل هذا حدث ولا نزال في منتصف عام 2011! فماذا يخبئ لنا النصف الثاني من عام التحولات والسيولة والتغيير هذا؟ لنتابع... فقد يكون ثمة أكثر من فجر في الأفق.