في أواخر الخمسينيات، 1950، يقول أبوصالح لمؤلف الكتاب الكويتي حمد عبدالمحسن الحمد، كنا مجموعة من الفتية على ساحل البحر نفترش رمال الشاطئ كعادتنا كل مساء، أعمارنا بين السادسة عشرة والسابعة عشرة. وحدث أن قدم إلينا شاب، وراح يحكي لنا حكايات لا يصدقها العقل! يقول ذلك الشاب إنه سافر إلى لندن مع جماعة، وأنه شاهد هناك غرائب وعجائب. "ومن تلك العجائب أنه شاهد في لندن حريماً إنجليزيات يجلسن في المقاهي مع الرجال ويأكلن ويحتسين الشاي والقهوة". وقبل أربعين عاماً، يروي "بوعلي" للمؤلف رواية أخرى، تزوج أحد الشباب فتاة من دولة أوروبية، وأنجبت له ولدين، وجاء بها لتعيش في الكويت، رغم اعتراض الأهل على زواجه من أجنبية. وفي أحد الأيام مر أحد أفراد عائلته في أحد الشوارع، ورأى تلك الفتاة تجلس في إحدى القهاوي ومعها أولادها، وراح ليبلغ عموم الأهل كيف أن "حُرمَة" تجلس بالقهاوي، واشتعلت ثورة الأهل: كيفي تجلس زوجتك بالقهاوي؟ ماذا نقول للناس؟ لقد حظيت "الديوانية" منذ سنوات باهتمام المحللين للحياة السياسية في الكويت، وهو اهتمام له ما يبرره، فالديوانية الكويتية ليست مجرد صالة لاستقبال الضيوف ولقاء الناس، بل تتحول في بعض الأحيان إلى مجالس ثقافية أو سياسية بالغة الأهمية وذات تأثير لا جدال فيه على مجرى الأحداث. ولكن مؤلف "حديث الديوانية" حرص على التقاط القصص ذات المدلولات البعيدة عن الصراعات السياسية والقضايا المعيشية والأحداث العابرة، فرصد بذلك مجموعة من الطرائف الاجتماعية. ومن الميول الفنية التي كانت تجابه بمعارضة عائلية شديدة في الماضي، الاتجاه للموسيقى والغناء، وكان يطلق على من يمتهنون الطرب والغناء "مطاربة" وهي جمع مطرب. ويروي الحمد أن اثنين من الإخوة امتهنا الطرب والغناء، وتحققت لهما شهرة واسعة داخل المجتمع الكويتي، وجاء شخص لوالدهما قائلاً: "عيالك صاروا مطاربة يا بوفلان". فامتعض الرجل من هذا الحديث، وقال رداً على من جاء بالخبر "الله يقطع نسلهم"! ويضيف المؤلف، أن امتهان الغناء كان منبوذاً آنذاك في المجتمعات الخليجية، ومن كان يغني لا يذكر اسمه الصريح أو اسم عائلته. وتورد الروايات أن أبناء ذلك الرجل لم يتزوجوا، وانقطع بالفعل نسلهم! وفي "حديث الديوانية" قصة طريفة عن قرار زواج ربما كان الأسرع! ويقول صاحب الرواية للمؤلف، إنه عمل مديراً للتوظيف في إحدى الشركات، ولم يكن متزوجاً آنذاك. وتقدمت فتاة مع والدها للمقابلة، وفي المكتب سارت الأمور على ما يرام، وتعددت أسئلة صاحب الرواية للفتاة، وكانت إجاباتها وردودها مقبولة، بينما كان والدها صامتاً ينتظر انتهاء هذه المقابلة، التي أخذت وقتاً أكثر من اللازم. وأخيراً، يقول صاحب الرواية، قلت لوالد الفتاة "عمي، أبيك بكلمة راس في المكتب الثاني"، بمعنى أريد أن أتحدث معك في مكتب مجاور. فاستغرب الأب وقال "نعم"، ووافق. وانتقل صاحبنا مع والد الفتاة إلى المكتب الثاني، وتحدث معه لدقائق، وحلّ الصمت، وعاد الاثنان إلى المكتب الأول حيث توجد الفتاة. وهنا نظر الأب لابنته وقال: "يا الله يا بنتي بنروح البيت"! ووافقت الفتاة مستغربة مما جرى.. وفي البيت قال الأب لابنته: "يا بنتي مدير التوظيف اللي قابلناه اليوم يقول بيتقدم لك، وبيخطبك" فردت الفتاة "يبه -أي يا أبي- أنا جايه آبي وظيفة مو زواج". نهاية الرواية، يقول صاحب الرواية، وافقت الفتاة على الزواج وانتهت الحكاية. وعن كرم أهل البادية يقول "الحمد"، كثيراً ما سمعت حكاية عن شخصية حسين بن علي آل سيف، المتوفى عام 1936، وكان أهل البادية يطلقون عليه لقب "معشي العوسج"، والعوسج نبات صحراوي يكثر في صحراء الكويت، فكيف يقوم إنسان بإعداد العشاء لها؟ تقول الرواية المتناقلة عن حسين بن سيف هذا، إنه في أحد الأيام، وبينما هو مقيم في خيام بالمربع مع جماعته، استيقظ قبل آذان الفجر، فشاهد سواداً ظنه ضيوفاً أقاموا خيامهم بجانبهم، فأيقظ رجاله وأمرهم بذبح الذبائح، وتم إعداد الوليمة لهم، ولكن اتضح عندما بزغ النور، أنها شجيرات العوسج، تخيلها "بن سيف" جماعة من أهل البادية. ومن قصص المرض والحياة والموت تقول الرواية، إن شخصاً جاء لعيادة صديق له كبير في السن، وكان الصديق يرقد بالمستشفى ويعاني من عدة أمراض، وكان يجلس بجانبه أولاده، فسأل الزائر المريض: إن شاء الله خير يا بو فلان؟ فرد المريض: إنا مصاب بالمرض الفلاني، فعلق الزائر متأثراً: "إيه.. هذا المرض اللي مات منه أبوفلان الله يرحمه"! ثم أكمل المريض: وأشعر كذلك بالألم الفلاني، فهز الزائر رأسه معلقاً: "إيه.. هذا العوار اللي ذبح أبوفلان رحمه الله"... وسكت المريض ولم يكمل! ويروي أبوراشد للمؤلف في الديوانية حكاية ما جرى له في بداية شبابه فقال: أصبت بمرض وتدهورت حالتي الصحية إلى الأسوأ حتى شارفت على الموت والاحتضار. لهذا قامت عائلتي باستدعاء جميع الأقارب والأهل لوداعي الوداع الأخير، وفعلاً قدم الجميع على عجل، وكنت مستلقياً على فراشي على الأرض وهم من حولي، البعض يبكي وآخرون متماسكون، وأنا أتفحص الوجوه الواحد تلو الآخر، مع سماعي أصوات البكاء والعويل التي تأتي من هنا وهناك حتى غادر الجميع المكان تاركيني لمصيري المحتوم. ولكن ما حدث بعد ذلك كان معجزة، فبعد أيام قليلة بدأت أتعافى شيئاً فشيئاً، ولم تمض فترة إلا وأنا أتعافى كلياً، وتمضي الأيام وتدور الأعوام، وأقوم أنا شخصياً بدفن ومواراة جميع أصحاب تلك الوجوه التي تفحصتها في ذلك اليوم، ممن وقفوا فوق رأسي مودعين، من أفراد العائلة. وبعد أن تجاوز أبوراشد السبعين، يقول الأستاذ الحمد، سمعنا أن المرض اشتد عليه، وقمنا بعيادته في المنزل، ولكن بفعد فترة قصيرة، انتقل إلى رحمة ربه! ولا أعرف متى بدأت المرأة قيادة السيارة في العالم العربي أو الكويت للمرة الأولى، وفي كتاب الحمد قصة يرويها أحد رواد الديوانية، ويقول: كنت ولداً صغيراً في المرحلة الابتدائية، ذهبت إلى مدينة "الأحمدي" مع أهلي.. ومدينة الأحمدي هي مركز الصناعة النفطية، حيث بيوت الأجانب وبخاصة الانجليز والأميركان، والحدائق الخضراء والمنازل على الطراز الأوروبي. ويقول المؤلف إن الولد في طريق العودة شاهد للمرة الأولى في حياته امرأة تقود سيارة في الكويت، وكان يعتقد أن النساء لا يقدرن على ذلك. ومن حكايات الكتاب قصة من مجال التعليم في الكويت وحسن تصرف إحدى الناظرات، ويقول الراوي إن إحدى التلميذات في مدرسة متوسطة للبنات بالكويت كُسرت قدمها، ووضع الجبس على القدم، وكانت التلميذة ترغب في مواصلة الدراسة لحبها الشديد للمدرسة، ولكن يصعب عليها المواصلة، لكون فصلها الدراسي في الطابق الثاني، مما يصعب معه على التلميذة الصعود والنزول. إلا أن حكمة ناظرة المدرسة تغلبت على ذلك بسهولة وذكاء، فأمرت أحد الفصول بالصعود إلى الطابق الثاني وإنزال فصل التلميذة إلى الطابق الأرضي. إن كتاب الأديب حمد الحمد "حديث الديوانية" إلى جانب كونه تجميعاً لبعض الطرائف والمفارقات، فإنه في الواقع وثيقة اجتماعية تصلح بعض محتوياته للدراسة والمقارنة، وبخاصة إن حرص آخرون في البلدان الخليجية والعربية عموماً على تجميع مثل هذه الروايات والحكايات الاجتماعية سواء وقعت أحداثها في الحياة العامة أم سمعها الراوي غالباً في مجالس معينة، أو في "الديوانية" بالذات، كما فعل حمد الحمد.