بات معتاداً أن نسمع في بعض الدوائر أن الولايات المتحدة تحت إدارة أوباما فقدت الكثير من نفوذها وتأثيرها في الشرق الأوسط؛ إذ يقول هؤلاء إن الأحداث الجسام التي عرفتها كل من تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا، وقعت بدون أي انخراط أميركي هام، بطريقة أو أخرى. ذلك أن أهمية أميركا تراجعت، يقول البعض، وأوباما أخفق في استعمال القوة الكبيرة التي بحوزته. غير أن هذا الرأي يفترض أن الولايات المتحدة تستطيع أن تفعل ما تريد وأنه ما عليها سوى أن تمارس القوة على الآخرين. والواقع أن هذا الاعتقاد شائع ومنتشر لدرجة أن العديد من الأميركيين وغير الأميركيين يتبنونه؛ لكنه يعكس سوء فهم لسياسة أميركا الخارجية تحت إدارة أوباما، وهذا الأمر يستحق نظرة عن قرب. فرأي أوباما حول الانتفاضتين في تونس ومصر أنهما نتجتا عن أسباب داخلية لا علاقة لها بالولايات المتحدة. فقد كان يعرف أن لدى أميركا علاقات ممتازة مع الحكومتين، لكنه لم يعتقد أن باستطاعته التأثير بشكل جوهري في مجرى الأحداث التي أفضت إلى تغيرات في البلدين. ومع ذلك، فإن بعض الأشخاص في أميركا والمنطقة ينتقدون أوباما لأنه لم يعبّر عن قدر أكبر من الدعم لمطالب الناس في الشارع والذين كانوا يدعون زعيميهم إلى الرحيل. وبعد ذلك، وبالتوازي مع استمرار الانتفاضتين، قال آخرون إن عليه أن يتدخل من أجل "إنقاذ" الحكومتين اللتين كانت تربطه بهما علاقات جيدة. لذلك، يمكن القول إنه كان عالقاً بين مطلبين متضاربين لـ"فعل شيء ما": إما الانحياز إلى صف المعارضة أو حماية القيادتين. غير أنه كان يؤمن بأن الحدثين التونسي والمصري أكبر من أي شيء تستطيع الولايات المتحدة القيام به. واكتفى بدعوة كل الأطراف إلى تجنب استعمال العنف، معتبراً ذلك موقفاً معقولا ومحايداً، لكن ذلك أثار انتقادات من كلا الجانبين باعتباره دعما غير كافٍ، معتبرين، على غرار الكثيرين، أن الولايات المتحدة كانت تستطيع لعب دور حاسم في مجرى الأحداث. لكن أوباما لم يكن ينظر إلى الأمور على ذلك النحو. وبالمثل، كان أوباما قلقاً عندما اندلعت الاضطرابات في اليمن والبحرين، لكنه كان ينظر إلى الوضعين باعتبارهما مسألتين داخليتين بالدرجة الأولى. ذلك أنه لم يكن يعتقد أن ثمة نوعاً من التدخل الأميركي المباشر الذي يمكن أن يكون مفيداً؛ لذلك فقد اختار التركيز على الجهود الدبلوماسية والدعوة إلى تجنب استعمال العنف. وفي كلتا الحالتين، قام بمشاورات طويلة مع السعوديين وأعضاء آخرين في مجلس التعاون الخليجي. وفي حالة البحرين بشكل خاص، كان أوباما يميل إلى الأخذ برأي شركاء البحرين في مجلس التعاون الخليجي وتركهم ليساعدوا على حل المشكلة، مع النأي في الوقت نفسه عن أي انخراط مباشر. وبعد ذلك عندما اندلعت الأزمة الليبية، قرر أوباما أن على الولايات المتحدة الانضمام إلى "الناتو" وبعض الدول العربية من أجل التدخل، على ألا تتولى واشنطن قيادة هذه العمليات، بحيث تكتفي بلعب دور ثانوي فقط، وتترك بريطانيا وفرنسا وآخرين يتولون قيادة المهمة. وأن تقتصر عمليات القوات العسكرية الأميركية، التي تعد الأقوى في العالم بدون منازع، على الهجمات الجوية، بحيث لا يتم إرسال أي قوات برية أميركية. ورغم أن الطائرات الأميركية نفذت بعض الضربات الجوية الأولى، فإن المشاركة الأميركية المتواصلة اقتصرت على المراقبة والدعم، وبعض الضربات بواسطة صواريخ وطائرات بدون طيار. لكن بعض منتقدي أوباما الأميركيين قالوا إن أميركا ظهرت بشكل محتشم، وإنه كان يتعين على الرئيس أن يفعل أكثر مما فعل. هذا بينما قال منتقدون آخرون إنه ما كان ينبغي عليه أن يشارك أصلا في المهمة الليبية، لأن الولايات المتحدة منخرطة أصلا في حربين بمناطق أخرى من العالم الإسلامي. والواقع أن قرار أوباما بخصوص ليبيا كان قراراً براجماتياً صرفاً، مُصمَّماً بالخصوص للوضع هناك. فقد تم إقناعه بأن على الولايات المتحدة أن تشارك في التدخل لأنه كان مقتنعاً بأن القذافي على وشك ارتكاب مجزرة فظيعة بحق الشعب الليبي في بنغازي ولم يكن يستطيع الوقوف موقف المتفرج في مثل تلك الظروف. وعلاوة على ذلك، كان أوباما منبهراً لكون الأمم المتحدة، إضافة إلى أعضاء في جامعة الدول العربية، كلهم يؤيدون تدخلا ضد القذافي. وقد كان الدعم العربي القوي حاسماً وأساسياً في إقناع الرئيس الأميركي بالانضمام، لكنه لم يلح على تزعم العمليات العسكرية لأنه كان يرغب في ترك البلدان الأوروبية التي لديها مصالح مباشرة في ليبيا تقوم بذلك. فلدى الجيش الأميركي بعض القدرات الخاصة في التكنولوجيا والأسلحة المتقدمة، للمراقبة والقيادة والسيطرة، ولديه الصواريخ المتطورة، ووسائل القتال الليلي... أي الجوانب التي وجد أوباما أنه يمكن للقوات الأميركية الإسهام فيها. وبقيامه بذلك الاختيار، أظهر أوباما اهتماماً بالتعاون مع الشركاء الأوروبيين والعرب، إلى جانب ضبط النفس والتحلي بالصبر، إذ كان مقتنعاً بأن القذافي سيُهزم في نهاية المطاف، فرفض التسرع والتدخل بالقوة الكاملة للقوة الأميركية. ومع ذلك، فالبعض في أميركا وأماكن أخرى ينظرون إلى مقاربات أوباما هذه باعتبارها ضعفاً، على اعتبار أنها تقوم على استعمال الخطاب والدبلوماسية فقط، بدلا من القيام بعمل مباشر. غير أن أوباما كان على دراية بمخاطر التدخل العسكري المباشر لسلفه بوش في العراق، والذي كان يعتبره خطأً، وكان مصمماً على توخي قدر أكبر من الحذر والحيطة. فهو لا يخاف من استعمال القوة العسكرية، مثلما أظهر في أفغانستان؛ لكن مقاربته تقوم على الاستماع بانتباه إلى بلدان صديقة، وتفضيل الدبلوماسية على غيرها، والأهم من ذلك تبني رأي متواضع بشأن حجم ما يمكن أن تحققه القوة العسكرية الأميركية عندما تُستعمل بشكل مباشر. وعلى أي حال، فالتاريخ هو الذي سيحكم بشأن ما إن كان قراره صائباً أو خاطئاً.