صار النصف الأول من العام 2011 الزمنَ الجديد للتغيير العربي، ولحركات الحرية العربية. وقد بدأت وقائعُ الزمن الجديد بتونس أواخرَ العام الماضي، وعندما وصلت إلى مصر ونجحت في مرحلتها الأولى بتغيير النظام، صنعت بالفعل مرحلةً جديدةً في حياة الإنسان العربي؛ إذ امتدّت التظاهُرات والاحتجاجات إلى سائر أنحاء العالم العربي مشرِقاً ومغرباً. وفي الشهر الرابع من العام الحالي، كان نظامان قد تغيّرا، وخمسة أنظمة مهدَّدة بالتحركات الشبابية الزاخرة. إنما علينا أن نعترفَ الآن، أنه وعلى مطالع الشهر السابع؛ فإنّ الحركات التغييرية هذه قد داخَلَها البطء والتردد، إن لم يكن من جانب المشاركين؛ فمن جانب المحيط الإقليمي والدولي، ومن جانب القوى الداعمة بالداخل والخارج. ولنستعرض الوقائع لننظر بعد ذلك في الاستنتاجات: * ظهور الانقسام بين المدني والإسلامي في تونس ومصر، وفي مصر أكثر من تونس. فقد عادت المخاوفُ من الإسلاميين إلى الظهور، كما أنّ قوىً محافظة في المجتمعين المصري والتونسي ظهرت لديها أفكارٌ أُخرى بشأن التغيير ومَدَياته، وإزعاجاته المستمرة للأمن ولمسار الحياة العادية. وقد تجلّى هذا الانقسام أو هذا التردد على الأقلّ في الاختلاف على المسارات لاستعادة الدولة والنظام، وفي انهماك فئاتٍ اجتماعية في عمليات المحاسبة على الماضي، أكثر من تفكيرها بالعمل المستقبلي. أمّا بشأن المسار؛ فهناك مَنْ يرى مدَّ الفترة الانتقالية لكي يتسنّى تشكيل الأحزاب الجديدة، وهل يُقدَّمُ الدستور على الانتخابات النيابية والرئاسية، ثم هل تكون الانتخابات الرئاسيةُ أولاً أم النيابية. وقد تبدو النقاشاتُ العلنيةُ بشأْن هذه الأُمور كلِّها صحِّيّةً، لأنها عَلَنيةٌ بالفعل، وتعتمد الحُجَج والأدلّة؛ لكنها من جهةٍ أُخرى ما دفعت إلى توافُقات وإلى ظهور تكتلات كبرى، بل قادت إلى تفكُّكٍ لا يكاد ينتهي حتّى بين الإسلاميين الذين كان يُضربُ المَثَلُ بتماسُكهم. أمّا الميل الغلاّب للاستمرار في المحاسبات على الماضي؛ فقد يبدو صحياً، لانه يُزيلُ العقبات أوبقايا ما كان سائداً. لكنّ هذه العملية التطهيرية كان ينبغي أن تكونَ سياسية، أَمَا وقد تحولتْ إلى محاكمات؛ فقد كان ينبغي التسليمُ للقضاء. إنما الذي نراه أنّ قرارات القضاء لا يجري التسليمُ بها إلاّ إذا اتخذتْ وِجهةً معيَّنة، أو تثور ضدَّها مظاهراتٌ صاخبة. إنّ الإحساس بالظلم عميق، وللثورات طبائع أخلاقية كما هو معروف؛ لكنّ ذلك يتطلبُ التوازُن الذي لا يحقُقه القضاء وحده، بل والحياة السياسية الحرة والمنطِلقة أيضاً. إنما الذي يحصل الآن أنّ الحياة السياسية مختلَفٌ على مساراتها، وكذلك القضاء المختلَف على صدقيته، فما هي المقاييسُ والثوابتُ إذن التي يمكن بالاستناد إليها التقدم إلى الأمام؟! ما اتّسعت حركيات الاحتجاج بعد الشهر الرابع من هذا العام. وقد يمكن القولُ إنّ النظامين الجزائري والسوداني قد تحققت لهما النجاةُ في المدى المنظور، وكذلك النظام الموريتاني. وإذا كانت حركة المعارضة في موريتانيا ضعيفة؛ فهي ليست كذلك بالجزائر والسودان. بل لابد من البحث عن أسبابٍ أُخرى تتصل بالعلاقات الدولية لكلٍ من النظامين، وطبائع الحاجات الدولية إليهما. ونحن نعرفُ أنّ تراجُع حركة الاحتجاج بالمغرب مثلا له أسبابٌ إيجابيةٌ، تجلّت في استجابة الملك للمطالب الشعبية، وكتابة دستور جديد جرى عليه استفتاءٌ أَدخل المملكة في مسار جديدٍ واعد. ويبدو المسار الأردني واعداً، فقد وعد ملكه بتغييرات دستورية، ومطالب المتظاهرين الآن لا تتجاوز مكافحة الفساد، وتغيير الحكومة. إنما يبقى أنّ عدم استمرار وقوة حركة التغيير بالسودان والجزائر، ليس له تعليلٌ واضحٌ لا بالداخل ولا من جهة المحيط القريب والبعيد. * صمود الأنظمة الثلاثة بليبيا واليمن وسوريا حتى الآن، رغم بقاء حركيات الاحتجاج الشبابية على زخمها. بل إنّ نظام القذافي يقاتله منذ قرابة أربعة أشهر حلف الأطلسي، وبقرارٍ من مجلس الأمن، والذي حصل حتى الآن أنّ ليبيا انشطرت إلى شطرين: شرق البلاد مع المجلس الانتقالي، وغربها مع القذافي، والوسط بينهما وشواطئه محلّ تنازُع. ولولا حالةُ مصراتة لحدث انقسامٌ عموديٌّ يُذكِّر بما كان عليه الأمر في عام 1950 قبل توحُّد مناطق البلاد الثلاث. ورغم الحظْر الجوّيّ؛ فالظاهر أنّ القذافي لا يشكو من قلّة السلاح أو الرجال. وربما لديه خطُّ إمدادٍ من جهة الجزائر، ويقال الآن إنّ إيران تُساعدُهُ من هناك أيضاً. بيد أنّ ذلك كلَّه لا يبرّر قدرتَه على الصمود. وقد كان يُضربُ المَثَل بضعف نظام علي عبدالله صالح، لكن ما يتمكّن الشباب، ولا أحزاب اللقاء المشترك، من إسقاطه. وقد مضى على غياب الرئيس بعد إصابته شهر وما يزال نظامُهُ صامداً بقواته العسكرية الرئيسية، وبإدارته المتواضعة. ولصمود النظام السوري أسبابٌ واضحة: استماتة إيران في مساعدته، والتمكُّن الآن من القبض على زمام السلطة بلبنان، ووجود سوريا ونظامها على حدود إسرائيل، وعدم الاطمئنان الدولي والتركي إلى البدائل للنظام. وباستثناء حمص وحماه؛ فإنّ المدن الكبرى والوسطى بقيت خارج الحركيات الزاخرة للاحتجاج والثوران. وهناك رهانٌ من جانب المتظاهرين على مرحلة ما بعد حماه. لكننا نعرفُ أنّ ركائز استقرار النظام السوري ما كانت يوماً داخلية. فالقمع الداخلي اقترن دائماً بالوظائف الإقليمية. وقد تضاءلت الوظائف، لكنها لم تنته. وهناك تمهُّلٌُ وتأمُّلٌ أميركيٌّ واضح، بدأ يظهر أيضاً لدى الفرنسيين والبريطانيين الذين كانوا متحمسين. فمن جهة يقول البريطانيون والفرنسيون إنّ الأمل بالإصلاح من جانب النظام معدوم، ومن جهةٍ أُخرى ينتظر الجميع بمن فيهم تركيا مآلات وتأمُّلات وشنطن. فهل تجبُ العودةُ إلى ذلك التقسيم الذي اقترحتُه لحالات الدول العربية إزاء التغيير في أبريل من العام الحالي: دول سميتُها صافية من الناحية الاجتماعية مثل مصر وتونس، وهذه يمكن أن يحدث فيها تغييرٌ جذريٌّ دون أن تتهدد وحدتها أو وحدة تُرابها الوطني. ودول ذات مجتمعات مختلطة، وهذه يمكن أن تدخل في تحول ديمقراطيٍّ دون تغيير النظام مثل سوريا واليمن والجزائر. ودول ذات نظام مَلَكي، مثل المغرب والأردن والبحرين، وهذه يمكن أن تسير باتجاه الملكية الدستورية. إنّ الدول العربية الخمس (تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا) التي استتبت الحركةُ الشعبيةُ فيها، لا يمكن أن تعودَ الأحوالُ فيها إلى ما كانت عليه. ففي تونس ومصر تغيَّر النظام، وما يزال الناسُ في الشارع. وفي ليبيا تعني العودة إلى الوراء انقسام البلاد وحلول الفوضى. وكذلك الأَمْرُ في اليمن، حيث فقد النظامُ السيطرة على صنعاء وتعز لصالح الثوار، وفي أبين لصالح "القاعدة"، وتنتشر الفوضى في سائر الأنحاء. إنما في تونس ومصر، وفي مصر أكثر من تونس، نوعٌ من الانسداد والضياع في تحديد الأَولويات. وفي ليبيا واليمن شكوكٌ قويةٌ في قدرة المعارضة الثائرة على قيادة المرحلة الانتقالية دونما انقساماتٍ واستقلالات. أمّا في سوريا فالوضع أفضل؛ إذ يتشكّل إجماعٌ تدريجي على ضرورة تغيير النظام. إنما هناك عقباتٌ إقليميةٌ ودولية. فالعقبة الإقليمية الرئيسية هي الصلابة الإيرانيةُ في الدفاع عن محورها ومناطق نفوذها في العراق وسوريا ولبنان والبحرين وغزة. لذا فهناك شكٌّ كبيرٌ في نجاح المصالحة الفلسطينية، ونجاح الحوار في البحرين، وحصول توافُق سياسي بالعراق. وتركيا مُنافس ٌواضحٌ لطهران بالعراق وسوريا. إنما كم تمضي تركيا في الصراع إن لم تجد مُساندةً عربيةً، وتصميماً أميركياً وأوروبياً؟! بعد ستة أشهُرٍ على انطلاق حركات التغيير العربية، تحصل انسداداتٌ وارتداداتٌ وتردُّداتٌ فيها، بغضّ النظر عن المرحلة التي بلغَها التغيير في كلٍّ من الدول الخمس. وقد حاولْنا (رغم المشتركات) أن نُجري توصيفاتٍ للأحوال في كلِّ بلد. والأمور تشير إلى ضياعٍ أو سيولةٍ من نوعٍ ما. ولذلك أسبابٌ محلية، لكنّ أساسات الانسداد إقليميةٌ ودولية.