هناك نظرتان للحياة والدين والسياسة. الأولى نظرة ثابتة ترى كل شيء بعين الثبات والديمومة، فالثابت أفضل من المتغير، والثبات هو الأمن والاستقرار، والتغير هو المجازفة والمخاطرة. والتصور الشائع في الثقافة الشعبية مع الثبات، فالثبات يعني الأمن والاستقرار، والاطمئنان وعدم القلق. وتدعم الأمثال العامية المصرية هذا التصور مثل "الشيطان اللي تعرفه أحسن من الشيطان اللي ما تعرفوش"، و"اللي فات قديمه تاه"، و"عصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة" أو بعض الأقوال المأثورة مثل "لو علمتم الغيب لاخترتم الواقع". وانتشرت في الحياة العامة أسواق وباعة "الروبابيكيا" والأشياء المستعملة، وفي الجنازات "يا دايم هوه الدايم، ولا دايم غير الله". أما التغير فهو قلق وعدم استقرار، وفوضى وإلقاء النفس في المجهول، وتآمر خارجي أو داخلي من الطامعين في السلطة أو الذين يرجون شرّاً للبلاد. هي دعوة يحملها الشباب المتهور الذي تنقصه خبرة الآباء والأجداد وتجربة السنين، فالتغير خروج على المألوف والعادة خاصة في المجتمع التقليدي. التغير من عمل الشيطان وأهواء النفس والمصالح المتغيرة للأفراد والجماعات. وقد امتدت هاتان النظرتان للحياة إلى الدين والسياسة، إلى فهم البعض للعقائد الدينية والنظم السياسية. الأولى ترى الدين مطلقاً، خارج الزمان والمكان، مقدساً إلهيّاً، لا يعتريه دنس البشر، لأن النص الديني له معنى ثابت بعيداً عن التحريف والتأويل من أصحاب الأهواء. الأولى تحرسها "الفرقة الناجية" وتحميها. والثانية تتبناها الفرق الضالة وتدافع عنها. وأيضاً في السياسة الأمن والاستقرار مطلب الجميع. والسلطة ينبغي أن تكون ثابتة وإن توالى عليها الأشخاص، وهي تعبير عن طبيعة البلد، تاريخه وجغرافيته وشعبه ونظامه مثل الفرعونية في مصر والملك النبي في إسرائيل، داود وسليمان. ووفقاً لهذه الرؤية فإن التغير خروج ومروق وضلال وهلاك، سبحان من له الدوام. وهذا وهم كبير، وهو سبب صعوبة تطوير المجتمعات وتغيير النظم السياسية وبقاء حكام بعض الجمهوريات عدة عقود من الزمان، واستحالة تداول السلطة، مع أن التقدم والتطور سنة من سنن الحياة، والتغير أيضاً قانون من قوانين الأحياء. وفي الأمثال العامية ما يؤيد ذلك مثل "الحركة بركة"، و"اسعَ يا عبد وأنا أعينك". وقد خلق الله سبحانه وتعالى العالم على مراحل (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً) مما دفع البعض إلى القول بإمكانية استخراج نظرية التطور من القرآن. ويصف القرآن تطور الجنين في رحم الأم (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ). والحياة دورة، حياة فموت فبعث. وقد أتى الوحي للتغيير الاجتماعي نحو الأفضل والأعدل والأحسن، وكانت رسالة الأنبياء إصلاح المجتمعات، والقضاء على الرذائل فيها مثل عبادة الأصنام كما فعل إبراهيم عليه السلام مع قومه، وموسى ضد عبادة العجل الذهبي عند بني إسرائيل، ولوط بمعارضته اللواط عند قومه، ويوسف وقضائه على المجاعة في مصر، وعيسى بتحرير بني إسرائيل من صورية الشريعة، والرسول محمد صلى الله عليه وسلم بقضائه على الوثنية وعادات الجاهلية وتوحيد العرب وتحويلهم إلى إمبراطورية ترث إمبراطوريتي فارس في الشرق، والروم في الغرب. وطوال التاريخ لم يتوقف التغيير، فكلما توقف ظهر نبي جديد ليستأنفه، ويقضي على العيوب الاجتماعية في قومه. فقصص الأنبياء يعبر عن مراحل التغيير الاجتماعي والتقدم نحو الكمال حتى اكتمل الوحي باكتمال عقل الإنسان وإرادته الحرة، بحيث أصبح مسؤولًا عن كماله الخلقي ووضعه الاجتماعي. وتلك رسالة العلماء. فالعلماء ورثة الأنبياء. وقد ظهر التغيير في روح الحضارة الإسلامية، فالنسخ هو تبديل الأحكام السابقة بأحكام لاحقة نظراً للتغير الذي وقع في الأوضاع الاجتماعية (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا). فالنسخ يأخذ التطور والزمان بعين الاعتبار. لا يوجد حكم ثابت ودائم لتغير الظروف والأزمان والمراحل التاريخية. كما أن الاجتهاد مصدر من مصادر التشريع، وهو القدرة على استنباط الأحكام بعد التعرف إلى عللها. فالأحكام متناهية والوقائع غير متناهية. وتلك مهمة القياس الشرعي، تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع لتشابه بينهما في العلة. وهذا هو معنى حديث المجددين الذي معناه أن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها. فالواقع يتغير وفهم الدين يتغير أيضاً طبقاً لتغير الواقع وإلا وقع التشريع في الجمود، وعدم مطابقته للمصالح العامة. فيهجره البعض ويستبدله بتشريع حديث وافد من الغرب، ويقع الشقاق بين السلفية والعلمانية، السلفية تدافع عن الثابت القديم، والعلمانية تدافع عن المتغير الجديد. وتلك أيضاً مهمة التأويل الذي قال به المعتزلة والفلاسفة والصوفية، تأويل النص بما يتفق مع العقل أو التجربة الذاتية. والتغير كمفهوم رئيسي في الدين هو الذي يجعله مفهوماً رئيسيّاً في السياسة من خلال الثقافة الشعبية، وبالتالي يصبح تداول السلطة أمراً ممكناً. فلا سلطة دائمة، ولا رئيس جمهورية مدى الحياة. الأمر شورى بين الناس. والمصالح متغيرة داخليّاً وخارجيّاً. ولذلك ارتبط مفهوم التغير بالحرية والديمقراطية، حرية الأفراد وديمقراطية الحكم. فالحرية اختيار، والاختيار متغير وليس قدراً مسبقاً. تعطي الحرية اختيارات عدة، لا أحد منها ضروري. والديمقراطية حكم الأغلبية، والأغلبية اليوم أقلية غداً، والأقلية اليوم أغلبية غداً. كما يقتضي مفهوم التغير التعددية السياسية ضد الحلول الأيديولوجية المسبقة، "الإسلام هو الحل"، الليبرالية أو القومية أو الاشتراكية هي الحل.... الخ. الحل هو تجريب كل الحلول، والقدرة على النقد الذاتي، والتعلم من الصواب والخطأ. ولكل مجتهد نصيب. وللمخطئ أجر، وللمصيب أجران. وعلى هذا النحو يمنع مفهوم التغير الفهم الثابت للدين والنظام الثابت في السياسة. ولا يتحول الدين إلى عقائد صورية أو مشخصة خارج الزمان والمكان. ولا تتحول السياسة إلى تبرير نظام فرعوني، يقوم على الزعيم الخالد والبطل الأوحد. ولذلك تندلع الثورات إذا ما سيطر الثابت على المتغير لترد إلى المتغير اعتباره وشرعيته. وتكون الثورة حينئذٍ هي الدائمة لأن المتغير هو الوحيد الدائم.