استعداداً لميلاد أحدث دولة في العالم، رُفعت الأعلام الوطنية في كل واحد من شوارع مدينة "أويل" بجنوب السودان، حيث رُفعت على أعمدة عالية فوق أكواخ متهالكة آيلة للسقوط، ووُضعت على مقدمة الحافلات، وصُبغت ألوان العلم الوطني - الأحمر والأسود والأخضر والأزرق - على جدران بيضاء. وفي الساحة العامة، كان المواطنون الجدد يتدربون على نشيدهم الوطني الذي أُلف مؤخراً فقط، ترافقهم فرقة موسيقية نحاسية. وكان الأطفال بزيهم المدرسي ذي اللونين الأخضر والأزرق يمشون على الشارع الرئيسي وهم يغنون أناشيد وطنية. غير أن محطة القطار بالقرب من "أويل" تمثل تذكيراً بأن استقلال جنوب السودان هو أيضاً "طلاق مر"، حيث افترش مجموعة من اللاجئين الأرض بالقرب من السكك الحديدية، تحيط بهم بعض الأواني وآليات زراعية، وقد حملوا معهم ذكريات من حيواتهم السابقة في أكياس من الخيش. إنهم جنوبيون – سود ومسيحيون أو وثنيون – كانوا يعيشون في الشمال المسلم العربي. وقد حكى لي أحدهم، وهو رجل متقدم في السن يدعى "دنج دنج أروب"، أن جيرانه العرب ناشدوه بالرحيل. "قالوا لي "يجب أن تذهب إلى بلدك؟". كانت طوابير طويلة من الجنوبيين تنتظر القطار. وأضاف دنج: "لقد كانوا يريدون الاحتفاظ بأبنائنا بالقوة"، موضحاً أن مسؤولاً مكلفاً باللاجئين هو الذي حال دون حدوث ذلك. ولدى مرورهم من كردفان، تلقى الجنوبيون تحية وداعية أخيرة، حيث قام شماليون بنصب كمين للقطار، فسرقوا الحبوب والمال. وعقب الهجوم، أحصى دنج 20 قتيلًا. وكان طفل في الـ14 من عمره يدعى بول ماين مسافراً مع شقيقه الأكبر سناً، "تشان". وكانت والدته قد سافرت على متن قطار سابق، وسط حالة الفوضى والارتباك التي كانت سائدة قبيل مغادرة الشمال. وخلال الكمين، هرب "تشان" من القطار للاختباء ويُعتقد أنه قد مات. كان شمال السودان وجنوبه في حالة حرب من دون استراحة تقريباً منذ 1955 - تخيلوا استمرار الحرب الأهلية في الولايات المتحدة لفترة نصف قرن من الزمن – ونتيجة لذلك، مات ملايين الأشخاص جراء القتال والمجاعة. وقد كانت هذه المنطقة من شمال "بحر الغزال" عرضة لغارات متكررة من أجل أسر العبيد – الذين مازال العديد منهم محتجَزين من قبل قبائل شمالية. وفي هذه الأثناء، يتواصل النزاع المسلح بمحاذاة الحدود، إذ تخوض عناصر من "جيش التحرير الشعبي" التابع لجنوب السودان القتال في جبال النوية وأبيي ضد القوات الشمالية. ومع ذلك، فإن الرئيس السوداني عمر البشير من المقرر أن يلقي كلمة خلال مراسم إعلان استقلال جنوب السودان. وفي حال شارك في هذه المراسم فعلًا، فإن ذلك سيُظهر جرأة من جانبه. كما سيُظهر المفارقة السودانية المتمثلة في الكراهية الكبيرة والعلاقات التي لا بد منها. والجدير بالذكر في هذا السياق أن البشير قبل استقلال جنوب السودان بعد ضغوط. ولكنه زعيم مخضرم يعرف كيف يحوّل النكسات لمصلحته. فهو يستطيع أن يقول لجمهوره الداخلي إنه ينتزع تنازلات كبيرة من الجنوب - مثل اتفاق نفطي تفضيلي - ويقوم في الوقت نفسه بطرد الجنوبيين من الشمال. وعلاوة على ذلك، فإن الولايات المتحدة تلوح له ببعض المزايا في حال سمح بطلاق دون مشاكل مع الجنوب - مثل تخفيف العقوبات وإزالة السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب ربما. ومن خلال توجيه الدعوة إلى البشير لحضور مراسم إعلان الاستقلال، تقوم حكومة جنوب السودان بحساباتها الخاصة. فالشمال قد يكون مكروهاً، ولكنه يظل الشريك التجاري الرئيسي للجنوب، ذلك أن 60 في المئة من المواد الغذائية المستهلَكة في جنوب السودان تُنتج في الشمال أو تصل إلى الجنوب عبره. وعلى الرغم من أن الجنوب يُنتج النفط، إلا أنه يستورد الوقود المكرر من جاره الشمالي. ويذكر هنا أن إغلاق الحدود مؤخراً بسبب القتال في "أبيي" أدى إلى نقص في الوقود في هذه المنطقة. غير أن المصالحة الحالية غير المريحة بين الشمال والجنوب هشة، والمناوشات العسكرية بمحاذاة الحدود التي لم يتم بعد رسمها أمر لا مفر منه، ولاسيما أن عدداً من القادة الجنوبيين والشخصيات السياسية لديهم جذور عائلية في أبيي المتنازع عليها، وقوات "جيش التحرير الشعبي" الجنوبي قد لا تكون خاضعة لسيطرة الحكومة المركزية بشكل كامل. وعلاوة على ذلك، يمكن القول إن من شأن معركة أكثر تنسيقاً وتوحيداً من أجل أبيي أن تحظى بتأييد شعبي واسع في الجنوب، حيث ينظر الكثيرون إلى أبيي باعتبارها "أرضاً مسروقة". والواقع أن بعض القادة الجنوبيين يبدون منجذبين إلى استراتيجية الإبقاء على الشمال منشغلاً وملهياً بأعمال عسكرية على نطاق محدود. كما أن البعض في الشمال يبدو عاقداً العزم على دعم ميليشيات مناوئة للحكومة داخل الجنوب بهدف إضعاف الدولة الجديدة. وحتى الآن، يمكن القول إن رئيس جنوب السودان سلفا كير عرف كيف يتجنب تصعيد الوضع على نحو ذكي، غير أن الأمر قد يتدهور بسهولة ويتحول من نزاع حدودي إلى حرب شاملة - حيث يدخل المعركةَ علم جديد وضحايا جدد لحرب تتوقف أحياناً ولكنها لا تنتهي! مايكل جيرسون محلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس"