صدور القرار الظنّيّ في جريمة اغتيال الحريري يتعدّى الأطراف المعنيّة به، الضحايا منهم والمرتكبين، بغضّ النظر عن مدى تأثّر تلك الأطراف به. فهو إذا ما نُظر إليه معطوفاً على نشاط المحكمة الدوليّة فيما خصّ القذّافي وليبيا، وقبلهما عمر البشير والسودان، بدا تعبيراً آخر عن وجهة كونيّة نامية باشرت صعودها مع نهاية الحرب الباردة قبل عقدين. فقد حلّت، ولو بقدر من الانتقائيّة، درجة أعلى من التفرّغ لمعاينة "العالم الثالث"، ومن الانتباه إلى سلوك أنظمته وقواه الفاعلة. وكان ما دفع العالم المتقدّم ومؤسّساته في هذه الوجهة، فضلاً عن انتهاء الثنائيّة القطبيّة، عناصر ثلاثة: الأوّل، تعاظم الحروب الأهليّة بالإفادة من تصدّع النظام العالميّ الذي سبق أن واكب الحرب الباردة، ومن ثمّ التزايد الفلكيّ في عدد الضحايا المدنيّين الذين تودي بهم تلك الحروب. والثاني، تعاظم الاستبداد واستشراس قواه التي استعاضت بالاتّكال على نفسها عن سقوط الاتّحاد السوفييتيّ. هكذا لم يخلُ من الدلالات الرمزيّة والفعليّة في آنٍ قيـام صدّام بغزو الكويت إبّان السقوط المذكور. أمّا الثالث، فمثّلته الحساسيّات الإنسانيّة العابرة للحدود الوطنيّة في أوساط الرأي العامّ الغربيّ، والتي كسبت زخماً عظيماً في السنوات العشرين الماضية. بيد أنّ انفجار ظاهرة المحاكم الدوليّة، انطلاقاً من الحرب الأهليّة اليوغوسلافيّة التي أعقبت تفكّك "المعسكر الاشتراكيّ" السابق، جاء يعلن عدداً من الأمور المهمّة. ذاك أنّ السيادة الوطنيّة المطلقة التي أفادت من ظروف الحرب الباردة وتوازناتها كي ترسّخ نفسها، إنّما تكشّفت، في حالات عدّة، عن استبدادات لا رقيب عليها ولا حسيب. وكان وراء ذلك أنّ حركة الاستقلالات التي وسّعت رقعة المتمتّعين بالسيادة المطلقة، نمّت عن تفاوت هائل بين النموّين السياسيّ والدستوريّ- القانونيّ. وهكذا بدا من الواضح، وهو ما تؤكّده أيّ مراجعة استعاديّة لتواريخ الحركات الوطنيّة، أنّ الإلحاح الاستقلاليّ إنّما حجب الوعي الدستوريّ- القانونيّ، وأنّ هذا الأخير غالباً ما قدّمه الفكر السياسيّ السائد حينذاك بوصفه عائقاً أمام الجهد الاستقلاليّ، وأحياناً مجرّد مشاغبة عليه لا تبرأ من شبهة تآمريّة. وفي حالات عدّة انتهت البلدان التي استقلّت في موجة نزع الاستعمار، متوسّلةً العنف أو النضال المدنيّ، إلى أنظمة قمعيّة وغير دستوريّة لا تأخذ حقوق الإنسان في أدنى اعتباراتها. فإذا اعتبرنا أنّ البلدان التي قادت حركة "الحياد الإيجابيّ" و"عدم الانحياز" هي التي شكّلت المثال القائد لأنظمة ما بعد الاستقلالات، صعقتنا حقيقة التراكيب السلطويّة التي حكمت البلدان تلك: ففي مقابل الديمقراطيّة التي أخذت بها الهند في عهد جواهر لال نهرو، واستمرّت بعده، استولت النُظم الاستبداديّة على يوغوسلافيا جوزيف بروز تيتو ومصر جمال عبدالناصر وإندونيسيا أحمد سوكارنو وغانا كوامي نيكروما وغينيا أحمد سيكوتوري. ولئن وجد معظم هذه الأنظمة دعمه وتأييده في الاتّحاد السوفييتيّ ونظام حزبه الواحد، فإنّ الولايات المتّحدة، المهجوسة آنذاك بالحرب الباردة ومكافحة الشيوعيّة، لم تُبد عناية أكبر بالديمقراطيّة وحقوق الإنسان. هكذا، ومع مطالع الخمسينيات، أسهمت وكالة الاستخبارات المركزيّة (سي. أي. إيه) في إطاحة الرئيس الغواتيماليّ المنتخب ديمقراطيّاً جاكوبو أربنز (1954)، وذلك بعد عام واحد على دورها في إطاحة رئيس حكومة إيران، المنتخَب ديمقراطيّاً أيضاً، محمّد مصدّق. وقد بلغت هذه الوجهة ذروتها مع الانقلاب الشهير، في 1973، على الرئيس التشيليّ سلفادور أليندي. وفي هذا السياق طُوّرت أفكار مؤدّاها أنّ "القضيّة" تبرّر القتل، وأنّ هذا الأخير يبقى تفصيلاً عارضاً وبسيطاً بالقياس إلى عظمة "القضيّة"، ولكلٍّ بالطبع قضيّته. ولئن صدر معظم هذه الأفكار عن جبهة القوى "المناهضة للإمبرياليّة"، فإنّ البلدان "الإمبرياليّة"، على عكس البلدان "الاشتراكيّة"، كانت تقدّم نماذج للحكم تخالف الممارسات غير الديمقراطيّة في "العالم الثالث". فإذا استطاع "المناهض للإمبرياليّة" غير الديمقراطيّ أن يستشهد بالنظامين الغولاغيّين السوفييتيّ والصينيّ كمثالين له، لم يستطع "عميل الإمبرياليّة" غير الديمقراطيّ أن يفعل الشيء نفسه متمثّلاً بأنظمة الولايات المتّحدة وبريطانيا وفرنسا. وفي الأحوال كافّة، أمعنت النُظم الاستبداديّة في العمل بموجب تلك الأفكار القاتلة، وحوّلتها إلى نوع من القناعة العامّة السارية في مجتمعاتها. وقد ساعدها في ذلك قاموس يدين ما هو "فرديّ" و"بورجوازيّ" ومتطلّب لحياة أفضل أو باحث عن خصوصيّة وتميّز. فهذه جميعاً إنّما هي ظاهرات مسكونة بالعداء لـ"الجماهير" و"القضيّة" التي يُفترَض أنّها "قضيّة الجماهير". بيد أنّ الموجة الثانية من الاستبداد، وهي التي تلت نهاية الحرب الباردة، سجّلت صعود "المنظّمات" و"الفصائل" إلى جانب الأنظمة. فإذا كانت الأخيرة قليلة الحفول بحياة الأفراد، فإنّ الأولى أقلّ حفولاً بكثير، كونها غير ملزَمة بتاتاً بالاعتبارات الدوليّة التي تتظاهر الأنظمة بالاكتراث بها. وربّما شكّلت بيروت في الثمانينيات، حين عمّ خطف الرعايا الأجانب، ومقديشو بعد سقوط نظام سياد برّي في 1991، محطّتين أساسيّتين على هذه الطريق التي وجدت تتويجها اللاحق في المقاومة العراقيّة بعد سقوط نظام صدّام في 2003، أو في قطاع غزّة وقد سيطرت عليه حركة "حماس". وقد تغذّت هذه الحركات، بطبيعة الحال، على النموّ الذي أحرزته الهويّات والولاءات السابقة على الدولة وعلى الحداثة في ظلّ تضعضع الدولة الوطنيّة مع انتهاء الحرب الباردة والعولمة. في النهاية يبقى أن قطّاع الطرق هؤلاء، أكانوا أنظمة أم منظّمات، ممّن يستخدمون شعوبهم كرهائن، هم المتضرّرون الأُوَل من المحاكم والقوانين الدوليّة. فمن الصعب بعد الآن ممارسة القتل، المعلن منه والخفيّ، باسم السيادة الوطنيّة و"القضايا" المجيدة. ولا نكون مبالغين في شيء حين نقول إنّ هذا التدخّل من قبل البلدان الغربيّة "في شؤوننا" مكسب عظيم، يتعدّى السياسيّ إلى الإنسانيّ. وبدل الاعتراض والرفض لهذا التدخّل، تملي النظرة الإيجابيّة المطالبة بتوسيعه بحيث يشمل انتهاكات إسرائيل وبعض الأنظمة التي تحول المصالح الغربيّة، حتّى الآن، دون التدخّل فيها.