معروف أن اللغة تعكس الحالة النفسية للإنسان. الانطباع الأولي عن أي إنسان تقابله لأول مرة يحكمه أول الكلام الذي يتفوه به. أطباء النفس يعتمدون في تحليل الحالات النفسية وتوصيف العلاج للمرضى النفسيين على الحديث معهم. الكلام متنفس العقد النفسية ومخرج آلام العقل الباطن. والعزلة والانعزال والانعزالية مصطلحات تصف حالة سياسية أيضاً، ولم تعد مقصورة على الفرد الذي يعاني من مشاكل نفسية. ولكن ما ينسحب على الفرد، ينسحب على الجماعة، أو بصورة أدق ينسحب على فريق وقائد نظام حزب حاكم في الدول ذات طابع الحكم الشمولي. عبارات التحدي والتهديد تنحصر في عالم السياسة اليوم في سياسيي العالم الثالث، وتحديداً العربي والإسلامي وتشافيز بفنزويلا. ففي أوج الثورات العربية رأينا أوصافاً لبعض القادة العرب بتهديد شعوبهم الثائرة، تراوحت بين وصفهم بالجراثيم إلى المهلوسين والعملاء والمندسين... الخ. ولكن الوصف بأقذع الألفاظ لم يتوقف عند التخوين، بل وصل حتى وصف المتظاهرين بالخلاعة والمجون، ورأينا كيف أن الإعلام المصري في العهد الراحل كان يتهم المتظاهرين الشباب بتعاطي المخدرات والعلاقات الجنسية المحرمة. حتى الرئيس المصاب علي عبدالله صالح حاول الغمز ضد المتظاهرات بتذكيرهن بأن الاختلاط بالرجال حرام، في محاولة لثنيهن عن التظاهر والخروج ضد نظامه. لعل الرئيس العراقي السابق صدام حسين هو صاحب أكثر الشتائم علناً، فقد لعن من اتهمهم بالتآمر عليه عام 1979 "نعله على لْحاكم"، هكذا تلفظ كلمة "لعنة" باللهجة العراقية. وهدد بحرق نصف إسرائيل بقوله الشهير: "والله لنخلّي النار تاكل نص إسرائيل". ولقد نالت إسرائيل قسطاً كبيراً من التهديد والوعيد. نتذكر تهديد إسرائيل بإلقائها في البحر. لم يشر التهديد إلى أي بحر يقصد هنا: هل هو البحر الميت أم البحر المتوسط؟ والبحر دوماً مصدر إلهام للغة التحدي، فنقول: "يشربوا من مية البحر"، أو أسوأ من ذلك: "يبلطوا البحر"! ومن البحر يستخرج الملح، وهو واحدة من أشهر كلمات التحدي، ولكن باللغة التركية، فمن التركية جاءت كلمة "طوز" بمعنى الملح، وهي كناية عن عدم أهمية الشيء، حيث كان التجار العرب يقولون للجمارك التركية أيام الدولة العثمانية إن ما يحملونه هو "طوز" -أي الملح المعفي من الجمارك. وتطورت الكلمة لتعني الاستهانة بالشيء وعدم قيمته، فحذفت الواو وصارت "طز". وهي "الطز" التي كررها العقيد القذافي وابنه سيف الإسلام: طز في أميركا وطز في بريطانيا وطز في العرب وطز في جامعة الدول العربية! والحائط أيضاً تستخدم في التحدي: طلب حسن نصر الله الأسبوع الماضي من المحكمة الدولية ومن يطالب بتسليم المتهمين من حزبه باغتيال الحريري أن "يخبطوا راسهم في الحيط". كما أن البقر من الماشية التي استخدمت في التحدي، فنقول محليّاً: "إذا حجّت البقر على قرونها". كما أن الخيل من مصادر التحدي، فيقال في الأمثال: "أطول ما في خيلك اركبه"، والرِّجل أيضاً تستخدم في عبارات التحدي فنقول في الخليج: "اللي ما تطوله بيدك، حط له رجلك". والشاهد أن ثقافات ولغات العالم كلها تعج بأمثلة التحدي والتهديد، ولكن لغة الساسة في العالم اليوم تكاد تخلو من عبارات العامة للتعبير عن موقف صلب والتهديد بالويل والثبور وعظائم الأمور. لم نسمع إسرائيل تهدد بحرق لبنان يوماً -أو تدمير غزة وتجويعها، وهي التي ارتكبت فيهما أشنع الجرائم التي شهدتها المنطقة. كما لم نسمع فرنسا وإيطاليا اليوم تهددان بملاحقة القذافي "زنقه زنقه"، وهما اللتان تقصفانه وقواته ليل نهار. التهديد في السياسة لغة الضعفاء، والفعل لا يتطلب تهديداً ولا وعيداً، والشواهد كثيرة، فـ"ضعاف الأسد أكثرها زئيراً... وأصرمها اللواتي لا تزأر".