في ندوة عقدت الأسبوع الماضي في "كوستا نافارينو" بجزيرة "بيلوبونيساس" اليونانية الجنوبية، استمعت إلى عالم شاب متخرج من هارفارد يتمتع بذكاء وبنفوذ كبيرين ضمن فريق أوباما للتخطيط الاستراتيجي، وهو يقول إن مستقبل العمل الأميركي الناجح في آسيا الوسطى، يكمن في إجراء "زيادة كبيرة" لعدد الأفراد القائمين على العمل السياسي والتنموي المدنى، اللازم لإنقاذ سكان تلك المنطقة من تخلفهم الراهن، ومن فشل الدولة... أي من الظروف التي تستغلها الجماعات الراديكالية والرجعية، والتي جعلت تلك البلاد عرضة للغزو الأجنبي المستمر، وللاستغلال من قبل الدول الآسيوية الأخرى المنافسة في المنطقة. وقبل حضوري الندوة المشار إليها، انشغلت بقراءة عرض لكتاب "أصول النظام السياسي" لمؤلفه فوكوياما صاحب النفوذ الكبير في واشنطن، والذي يطرح فيه فهماً تاريخياً "جديداً" لعملية تطور المؤسسات السياسية، كما يتضمن مقاربة لبناء المؤسسات والتطور السياسي في العصرين الصناعي وما بعد الصناعي، عندما يتقدم النمو الاقتصادي والتعبئة الاجتماعية بسرعات أكبر مما كان عليه الحال في الماضي. والحقيقة أني أختلف كثيراً مع هذا الكتاب، لكن من المرجح أنه سيؤدي إلى تعزيز استراتيجية السياسة الخارجية الأميركية في مجال بناء الديمقراطية، والتي كانت قد وضعت إطارها العام كوندوليزا رايس في عهد بوش، في مقالة لها نشرتها دورية "فورين آفيرز" أواخر خريف 2008. كتبت رايس: "إن الواقعية الأميركية الفريدة، تتطلب أن تتعرف الولايات المتحدة إلى مسؤولياتها كي تغير العالم على صورتها". ثم أضافت: "صداقتنا الدائمة في منطقة الخليج توفر أساساً جيواستراتيجياً راسخاً للعمل الذي ستستكمله الأجيال اللاحقة". وبعد ثلاث سنوات، وتحت وزيرة خارجية أخرى هي هيلاري كلينتون، طبعت وزارة الخارجية الأميركية تقرير مراجعة لفترة أربع سنوات يطلق عليه تقرير "المراجعة الدبلوماسية والتنموية الرباعية"، وقد حمل هذا التقرير عنوان "القيادة من خلال القوة المدنية"، وفيه أطالت الوزيرة حديثها بحماس عن "زيادة كبيرة في عدد المسؤولين المدنيين الذين سيحققون في الشهور والسنوات القادمة معجزات في مجال التنمية السياسية والاجتماعية في العالم غير الغربي، مما يحقق فوائد استراتيجية لا تقدر بمال لواشنطن". ووصف ناقد مهم، هو "ديفيد ريف" في مقال نشره في عدد فبراير 2011 من مطبوعة "ناشيونال انتيريست"، تلك الاستراتيجية بأنها "قصة جيواستراتيجية خيالية"، وهو حُكم اتفق معه تماماً. ومن الأسباب التي يمكن الاستناد عليها في تبرير ذلك الحكم، السبب المتعلق بصعوبة التوفيق بين التوقعات الأميركية، وبين الحقائق العسكرية على الأرض، والتداعيات الناتجة عن الانخراط الأميركي في دول مثل ليبيا واليمن والصومال والعراق وإيران، وإسرائيل المهمومة حالياً بما يمكن أن يترتب على المحاولة الفلسطينية للحصول على اعتراف من الأمم المتحدة. ورغم الضغوط الواقعة على الولايات المتحدة، والتي تدفعها للانسحاب من حروبها في العالم الإسلامي، والعمل على إعادة تركيز اهتمامها على الصين، فإن إدارة أوباما تبذل جهوداً حثيثة لإقناع الحكومة العراقية بالسماح لقواتها بالبقاء في العراق بعد التاريخ الذي كانت قد حددته بنفسها من قبل. وكان أوباما قد أعلن أنه سيتم سحب 33 ألف جندي أميركي من أفغانستان خلال العام المقبل، أي ثلث عدد القوات التي كان قد أمر بإرسالها ضمن سياسة زيادة عدد القوات العاملة هناك بعد توليه الحكم بداية عام 2009، ما يعني أنه سيترك في أفغانستان عدداً من الجنود يزيد عما كان موجوداً هناك عام 2008، دون أن يؤدي ذلك لأي تحسن جوهري في الموقف، بل إن عدد الخسائر من المدنيين والعسكريين ازداد هناك، مع غياب أي سبب منطقي يمكن أن يقنع المواطنين الأميركيين بجدوى تلك الحرب، والخسائر الأميركية، المادية والبشرية، المترتبة عليها. وأفضل كتاب متاح عن أفغانستان حالياً هو كتاب "لوسي مورجان ادواردز" المعنون "الحل الأفغاني"، والذي نشر حديثاً بلندن. ويرجع تميز هذا الكتاب لحقيقة أن المؤلفة قضت الجزء الأكبر من العقد الماضي في أفغانستان، حيث عملت كصحفية لـ"الديلي تلغراف" و"الإيكونوميست" البريطانيتين، كما عملت مستشارة سياسية للاتحاد الأوروبي في كابول، وموظفة إغاثة، وكمراقبة انتخابات، مما وفر لها احتكاكاً، ومعرفةً شاملة بما يتعلق بالمجتمع والسياسة في أفغانستان. الكتاب يروي بقدر كبير من الواقعية كيف أن الغطرسة الغربية كانت السبب في كارثة أفغانستان، كما يشرح الأسباب التي جعلت الحرب "تمضي في الاتجاه الخطأ ونحو مستنقع لا مخرج منه". أما عن كيفية الخروج من المأزق، فلا تقدم المؤلفته إجابة محددة، لكنها تقول إن الأجانب يجب أن يخرجوا في النهاية، كما سبق أن خرجوا من الهند الصينية. لكن متى؟ إجابتها أن ذلك لن يكون في عهد باراك أوباما. ويليام فاف كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تربيون ميديا سيرفس"