حملت فورة الفضائيات والمواقع الإخبارية خلال السنوات القريبة الماضية العديد من الظواهر السلبية بقدرما أتاحت أيضاً فرص الانتشار والإخبار بشكل لا سابق له. ولم تقتصر سلبياتها على قلب معهود المواثيق والتقاليد المهنية في فنون الإخبار فقط، بل لقد تعدت ذلك لتكريس نوع من "النخب" الثقافية المحظية إعلاميّاً، التي تكاد تقتصر فرص الظهور على الشاشات وفي أعمدة صفحات الرأي بمواقع الصحف الكبرى على أفرادها، الذين يقدمون عادة على أنهم "خبراء" و"محللون سياسيون" أو مثقفون مختصون في المجال موضوع التداول الإعلامي، حين يستضافون لتقديم آرائهم ورؤاهم حوله. ومع مرور الوقت تكرس حضور هذا النادي من "المثقفين" المرسَّمين إعلاميّاً، وفق نوع من منطق أو بالأحرى لامنطق "الشللية" والزبونية الإعلامية، وبذلك تعاظم تأثيرهم في تشكيل توجهات الرأي العام، وفي رسم ملامح التصورات المشتركة التي تسعى وسائل الإعلام عادة لتسويقها في صفوف الجمهور العريض المستقبل لرسالتها الإعلامية. ولرصد مظاهر وخلفيات هذه الظاهرة الجديدة وتأثيرها السلبي على الثقافة والإعلام معاً في فرنسا، وعلى طرائق التفكير والتدبير المتعلقة بتسيير قضايا الشأن العام، أصدر الكاتب الفرنسي المعروف باسكال بونيفاس مؤخراً كتاباً بعنوان: "مثقفو التزييف- الصعود الإعلامي لخبراء الترَّهات"، ليقارب فيه هذه الظاهرة معززاً طرحه بتتبع دقيق للملامح الثقافية والسياسية المشتركة بين ثمانية وجوه انتقاها بعناية من بين "النجوم" الأكثر انتشاراً وحضوراً في استضافات الفضائيات، وعلى أعمدة الصحف، الفرنسية. وبكل الصرامة والمتانة المنهجية والفكرية المعروفة عن كتب ودراسات باسكال بونيفاس، مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية في باريس، جاء الكتاب معززاً بالحجج الدامغة، ثريّاً بالأمثلة، متأسساً على الملاحظات الحية المشاهدة، ولذلك احتل بسرعة رأس قائمة مبيعات الكتب الفرنسية منذ صدوره قبل أسابيع، على رغم أن المؤلف كان قد تلقى الاعتذار من 14 ناشراً قبل أن يجد أخيراً من يتشجع على طباعة مخطوطة هذا الكتاب، وكانت كل تلك الاعتذارات لأسباب متعلقة بخشية الناشرين من إصدار كتاب يعري زيف أولئك "الخبراء" والأشخاص المتنفذين، عن حق أو عن باطل، من ذوي الكلمة الأولى والأخيرة في عالم السياسة والإعلام بفرنسا. وينطلق الكاتب مستعرضاً بعض المغالطات والخرافات التي انتشرت على أوسع نطاق لدى المتلقي الفرنسي بسبب شراسة وطغيان نفوذ مثقفي التزييف، الذين لا يتورعون عن تسويق وبيع أحكامهم المسبقة وأوهامهم وزيف نفوسهم وتوجهاتهم للجمهور، على أنها حقائق موضوعية، لا يرقى إليها الشك. والمفارقة أن بعض وسائل الإعلام تدمن هي أيضاً على الانخداع وابتلاع الطعم، وتظهر قابلية لانهائية لأن تلدغ من الجحر الواحد عشرات المرات متقبلة خطاب التضليل والتحريف الذي يروج له هؤلاء "المثقفون"، دون أن تمارس حيالهم أبسط أشكال النقد، أو أقله أن تضع ما يصدر عنهم من أنصاف حقائق، وخرافات، بين علامتي تنصيص، لزوم أخذ مسافة أمان من خطابهم، ولدواعي عدم التواطؤ مع طريقتهم في تناول موضوعات الشأن العام، وهي طريقة يمكن أن توصف بأي شيء سوى المهنية أو الموضوعية. والأسوأ من هذا كله أن جمهور المتلقين يظهر، هو أيضاً، قابلية غير محدودة لابتلاع الحقائق والخرافات التي يروج لها، دون تمييز الحقيقة من الخرافة، أو الغث من السمين. ومن خلال تشريح النماذج يعري بونيفاس انحياز وشعبوية -وأيضاً تعبوية- بعض أبرز نجوم الإعلام والثقافة في فرنسا الآن، ممن لا يتعلقون من أمانة الكلمة والموضوعية -المفترضة في الثقافة- بأدنى شبهة، وعلى رأس هذه القائمة من مثقفي التزييف والتحريف -وأحياناً التخريف- يأتي طبعاً أشخاص متنفذون إعلاميّاً مثل "الفيلسوف" برنار- هنري ليفي، والكاتب السياسي اللامع ألكسندر أدلر، إضافة إلى محللين و"خبراء" آخرين مثل كارولين فوريه، وفيليب فال، وفردريك آنسل، ومحمد سيفاوي، وغيرهم من ذوي الأغراض الشخصية والأجندات الخفية غير المهنية وغير الثقافية، الذين تغرق الشاشات والصحف جمهورها بتنظيراتهم، غير البريئة، وغير الحيادية. وحتى لا يفترض القارئ أن نجوم الفضائيات هؤلاء إنما استحوذوا على فرص الانتشار الإعلامي بسبب شعبيتهم وجاذبيتهم، يقول بونيفاس إن كاتباً كبرنار- هنري ليفي مثلاً يمكن أن يوصف بأي شيء سوى أن يكون محبباً أو ذا شعبية، وأتحداه -يقول الكاتب- أن يأتي لإلقاء محاضرة في ثانوية أو جامعة دون أن يجد في انتظاره الاحتجاجات الصاخبة المناهضة له ولتوجهاته. بل إن كتابه الأخير، على رغم الدعاية الإعلامية المحمومة لم يبع منه سوى 3500 نسخة. والحقيقة أن كثرة الوظائف التي يشغلها "ليفي" في مجالس إدارات وتسيير المؤسسات الإعلامية الفرنسية هي الدعامة الوحيدة لانتشاره، وهي الرافعة الوحيدة التي تنطلق منها ظلاله الإخطبوطية الطويلة العريضة في المشهد الإعلامي الفرنسي. وما يصدق على "ليفي" يصدق أيضاً على "خبراء" مزيفين آخرين يستفيدون من فائض التسويق الإعلامي كلما تعلق الأمر بقضايا مثل "الخطر الإسلامي" و"الهجرة" و"الضاحية"... الخ. وعلى سبيل المثال لا الحصر فقد صنعت "كارولين فوريه" أسطورتها بل فقاعتها الإعلامية من التفنن في الهجوم إما على المفكر الأوروبي المسلم طارق رمضان، أو من خلال مهاجمة زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبن! وفي كلتا الحالتين تكمن "عبقريتها" في اختيار "من ينبغي مهاجمته"، من منطلق يميني شعبوي، بطبيعة الحال! وفي الأخير، وفي غمرات حجاجه، يرصد بونيفاس بعض الخيوط الناظمة المشتركة بين جميع مثقفي التزييف في فرنسا، وفي مقدمة تلك الخيوط -كما يمكن أن نتوقع- مناصرة إسرائيل، والاستعداد الكامل، ودون قيد أو شرط، لتطويع التحليلات "الثقافية"، وليِّ أعناق الحقائق "العلمية" والإعلامية، للدفاع عن ممارسات تل أبيب، إضافة إلى التبني شبه المطلق أيضاً لأردأ أطروحات اليمين المحافظ الجديد. وهذان الخيطان الجامعان، أصبحا الآن بمثابة العلامة المسجلة لمثقفي التزييف في الفضاء الإعلامي الفرنسي. وفيهما يمكن البحث أيضاً عن سبب الانتشار الإعلامي لهذه الشاكلة من المثقفين. وقديماً قيل: إذا عرف السبب بطل العجب! حسن ولد المختار الكتاب: مثقفو التزييف- الصعود الإعلامي لخبراء الترَّهات المؤلف: باسكال بونيفاس الناشر: جان كلود جاوزفيتش تاريخ النشر: 2011