على مدى سنوات ست، لجأت قرية "بلعين" لأسلوب سلمي ورمزي وحضاري في سياق الاحتجاج ضد جدار الفصل العنصري الإسرائيلي كل يوم جمعة. وقد شاركَ أهلَ القرية في كفاحهم المسالم متضامنون من مختلف دول العالم وناشطون حقوقيون إسرائيليون، ضمن حملة تعبوية فلسطينية شعبية هدفها الوصول إلى دعم المجموعات الشعبية والمنظمات الدولية المؤيدة للشعب الفلسطيني، والتي تطلق المظاهرات والفعاليات في مجتمعاتها بهدف الضغط على حكوماتها لإدانة الجدار، مطالِبةً إسرائيل بوقفه، وهدم ما بُني منه. ومع استمرار التظاهرات الشعبية دون انقطاع، نجح أهالي بلعين في إجبار الاحتلال على إزالة جزء كبير من الجدار عن أراضي القرية، والذي جاء تطبيقاً لقرار قضائي من المحكمة الإسرائيلية العليا التي صادقت في الرابع من سبتمبر 2007 على قرار يعترف بأن مسار الجدار الذي بدأ بناؤه على أراضي بلعين غير قانوني، كما يأمر بإزالته. وبذلك، بدأت سلطات الاحتلال تفكيك السياج الأول من الجهة الغربية للقرية ومن المفترض أن تكتمل إزالة الجدار مع منتصف يوليو الجاري. وبهذا تسترجع قرية بلعين التي تحولت إلى رمز للمقاومة الشعبية الفلسطينية ضد الجدار والاستعمار (الاستيطان)، نحو 1200 دونم من أصل 2300 صادرها الاحتلال. وبحسب المنسق الإعلامي لـ"لجنة مقاومة الجدار والاستيطان في بلعين"، راتب أبو رحمة، فإنه خلال السنوات الست الماضية أصيب 1400 من أبناء بلعين التي لا يتجاوز عدد سكانها ألفي نسمة، موزعين على خمس عائلات، منهم عشرة أصيبوا بجروح خطيرة وأصبحوا معاقين، مشيراً إلى أن الفرحة في بلعين تظل منقوصة نتيجة بقاء 1100 دونم من أراضي القرية خلف مسار جديد للجدار يجري بناؤه على أراضي القرية. وعلى امتداد العالم، يدرك عدد متزايد من الناس أن جدار الفصل العنصري الإسرائيلي هو "جدار سياسي" يقوم على الفكر العنصري الاستعماري (الاستيطاني) التوسعي الإسرائيلي، وأنه ليس -كما تروج إسرائيل- خطوة "أمنية اضطرارية و(مشروعة) للدفاع عن النفس في مواجهة (الإرهاب الفلسطيني) داخل أراضي الـ48". فالجدار يتيح للاحتلال الإسرائيلي السيطرة على ما يقارب 50 في المئة من الضفة الغربية، خالقاً واقعاً صلباً على الأرض، يجعل أية مطالبة بما اصطلح على تسميته "ثوابت الحد الأدنى" الفلسطينية مجرد أحلام. والجدار، كذلك، يرسِّم الحدود على الأرض إسرائيلياً، ويستولي على مصادر المياه الرئيسة، وكذلك الأراضي الزراعية، ويضع الفلسطينيين في جيتوهات (معازل) عنصرية لها بوابات تخضع لرحمة المستعمرين (المستوطنين)، ويدمر المنشآت الاقتصادية، ويحرم الفلسطينيين من العمل والتعليم. والجدار لا يلغي فقط إمكانية قيام دولة فلسطينية مستقلة، بل يلغي كذلك إمكانيات الوجود الفلسطيني على هذه الأرض، تاركاً وراءه قرى بأكملها عالقة بين الجدار وما تسميه إسرائيل "الخط الأخضر". لقد أثبتت بلعين، من خلال استمراريتها وسنوات نضالها الماضية، قدرة الإنسان على رفض الواقع المظلم وعلى مقاومة الاحتلال بالطرق السلمية. كما أن تلك القرية عززت مع أخواتها (البلدات والقرى المقاومة) الرؤية المستقبلية للمقاومة الشعبية عبر مشاركة ممثلي القوى الوطنية، وسبل الارتقاء بفعالياتها مستقبلا، حتى اكتسب هذا النوع من النضال السلمي أنصاراً كثيرين في أنحاء العالم، فاستطاعت حشد دعم دولي في مواجهة العنصرية الإسرائيلية، وأماطت اللثام عن وجهها القبيح. ومع تصاعد "الربيع العربي"، والتأكيد على أن الجماهير الشعبية المتسلحة بالإرادة والتصميم قادرة على انتزاع أمانيها، تظهر هذه القرية التي لم تنتظر لا الدعم ولا المساندة من أحد، بل نظمت ووحدت صفوفها واتخذت قرارها بالمقاومة السلمية دون شعارات وخطب رنانة، بل عبر عمل متواصل على الأرض، مدعوماً بإرادة صلبة برهنت على أن النضال الشعبي المستند إلى الجماهير ووحدتها ودعم المتضامنين الأجانب، وحتى الإسرائيليين أنفسهم من القوى غير المتصهينة، قادر على إلحاق الهزيمة بالمحتل الصهيوني مهما امتلك من قوة. ويبقى القول هنا أن ما قامت وتقوم به بلعين وأخواتها بحاجة إلى دراسة معمقة من قبل مؤسسات المجتمع والأحزاب السياسية، سعياً لتطويره كي يطال المدن الشقيقة من أجل تعظيم نقاط القوة. فمن أجل ربح المعركة يجب تنظيم الجهد الشعبي الوطني الفلسطيني في مقاومة الجدار بحيث يصبح جهداً موحداً شاملا لا يقتصر على القرى والبلدات ذاتها، وعلى نحو يستهدف تجسيد مقاومة جماهيرية متعاظمة لا تكتفي بمسيرات بلعين وأخواتها، على أهميتها، وإنما تنتشر وتمتد في مدن الأرض المحتلة. فلا أنجع من درب الانتفاض الفلسطيني السلمي الحضاري المتجدد، حتى تقرير المصير. ففي ظل تأزم الأمور مع وجود حكومة يمينية متطرفة عززت جمود المفاوضات، ومع ترسخ الانقسام الفلسطيني الداخلي وتزايد مشاعر الإحباط إزائه، تظهر بلعين لتؤكد قدرة الشعب العربي الفلسطيني على مواجهة الاحتلال بأبسط السبل والوسائل المتاحة، ما يؤشر إلى إمكانية انبثاق لحظة انتفاضية جديدة تتطور وتتحول إلى انتفاضة جماهيرية ثالثة ضد الاحتلال. نعم، إن بلعين وأخواتها عاملٌ دافعٌ لانتفاضة ثالثة. وبما أن "عملية" المفاوضات متوقفة حاليا، أو يراد لها أن تكون عبثية وممتدة إلى أمد غير معروف، فإن بلعين تفتح الشهية على اندلاع المقاومة السلمية ضد العنصرية الإسرائيلية وجرائمها، وضد الاستعمار "الاستيطاني" وبناء الجدار العنصري، وضد عموم سياسات التهويد ومصادرة الأراضي وهدم البيوت. بل إن العديد من الكتاب الإسرائيليين أدركوا حقيقة ما ستؤول إليه الأيام خاصة مع قرب استحقاق سبتمبر. فها هو المحلل السياسي في "هآرتس" (ألوف بن) يقول: "الانتفاضة الثالثة حتمية وستندلع في حال اعترفت الأمم المتحدة بالدولة الفلسطينية، لأن القرار لن ينفذ من تلقاء نفسه، وسيشن الفلسطينيون حرباً للمطالبة بحقوقهم السيادية وطرد الجيش الإسرائيلي من أراضيهم". ثم يضيف الكاتب: "إن توقيت الانتفاضة الثالثة والسبب المباشر لاندلاعها غير معروفين بعد، لكن ليس مؤكداً أن ينتظر الفلسطينيون الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر". وأخيراً يخلص إلى أن "الوقت الآن بات متأخراً والعالم ينظر إلى نتنياهو كرافض للسلام وعنيد ويتمنى سقوطه، وهو لن يتمكن من منع الانتفاضة الثالثة، ومثل سابقتيها، ستكلف إسرائيل ضحايا أكثر وستقود إلى الانسحاب الذي سعى نتنياهو إلى إحباطه".