في عام 2005، وبمناسبة الذكرى الستين لولادة منظمة الأمم المتحدة، قدم وزير خارجية أستراليا السابق غاريت إيفنز اقتراحاً إلى الجمعية العامة باسم مجموعة من الخبراء القانونيين يقوم على أساس تكريس "المسؤولية الدولية في حماية المدنيين". وقد أيدت الاقتراح في ذلك الوقت 150 دولة. ونص على أنه "يسمح بالتدخل العسكري بقرار من مجلس الأمن الدولي إذا فشلت الوسائل السلمية، أو إذا لم تكن كافية، أو إذا كانت السلطات الوطنية عاجزة عن تأمين سلامة المواطنين وعن حمايتهم من أعمال الإبادة، أو جرائم الحرب أو التطهير العرقي، أو الجرائم ضد الإنسانية". وفي عام 2008 استخدم الاتحاد الروسي هذا القرار لتبرير الهجوم على جورجيا. واستخدمته فرنسا لحمل السلطات العسكرية في ميانمار (بورما سابقاً) على السماح بإرسال المساعدات الإنسانية إلى السكان بعد أن ضرب تلك الدولة إعصار مدمر. ويومها رفض الحكم العسكري في ميانمار قبول المساعدات الخارجية بحجة أنها ستكون مدخلاً للتسلل الاستخباري والتدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية. غير أن المجتمع الدولي هدد باستخدام القوة العسكرية لتوصيل المساعدات الإنسانية استناداً إلى القرار الدولي "ر2 ب" الذي اتخذ قبل ذلك بثلاث سنوات بشأن التدخل الإنساني. ولم ينطلق هذا القرار من فراغ، فالتاريخ المعاصر، وخاصة القرن العشرين، حافل بالمجازر التي وقف العالم أمامها مكتوف الأيدي، من مجازر الخمير الحمر في كمبوديا في السبعينيات من القرن الماضي، إلى المجازر التي ارتبكها نظام صدام ضد الأكراد في شمال العراق في عام 1988، إلى جرائم التطهير العرقي التي تعرض لها المسلمون في البوسنة في التسعينيات على أيدي القوات الصربية (مجزرة سربينيتشا التي قتل فيها ثمانية آلاف مسلم لمجرد أنهم مسلمون). إلى جرائم الحرب التي ارتكبتها القوات الصربية أيضاً في كوسوفا، مما دفع قوات حلف شمال الأطلسي إلى قصف صربيا حتى انسحبت منها، لتعلن فيما بعد استقلالها. ولعل أشدها فظاعة المجازر الجماعية التي وقعت في رواندا في عام 1994 وذهب ضحيتها أكثر من مليون إنسان خلال بضعة أشهر فقط. وقد تجدد سيناريو مشابه لذلك الذي دعا لقصف صربيا ولكن هذه المرة في ليبيا بعد أن وصف العقيد القذافي مواطنيه بـ"الجرذان" ودعا قواته إلى الفتك بهم ومطاردتهم في كل مدينة وبلدة، بل وفي كل شارع وفي كل "زنقة"، على حد قوله. ولو لم تتدخل قوات الحلف الأطلسي لارتكبت قواته مجزرة في بنغازي على غرار مجزرة سربينيتشا. ولكن إذا كانت هناك تبريرات إنسانية للتدخل العسكري لأسباب إنسانية في دول مستقلة، فهل يجوز إغفال التبريرات السياسية؟ ربما يكون من السذاجة توصيف الدول المتدخلة عسكريّاً بأنها تفعل ذلك فقط لإراحة ضميرها الإنساني، ولأداء واجبها في الدفاع عن المدنيين الأبرياء. ولكن ما هو الخط الفاصل بين المصالح الحيوية والاستراتيجية للدول والبعد الإنساني للتدخل؟ يقول القرار "ر2 ب" لعام 2005 وعنوانه "مسؤولية التدخل" إنه عندما تعجز دولة ذات سيادة عن منع وقوع مجازر، فإن الحكومات الأجنبية يمكن أن تتدخل لوقفها. غير أن هذا الموقف المبدئي يخضع لتفسيرين متناقضين؛ التفسير الأول إنساني، ويقوم على أساس أن التدخل ضروري لإنقاذ حياة الأبرياء وللمحافظة على حقوق الإنسان، وخاصة حق الحياة والكرامة. أما التفسير الثاني فسياسي، ويقوم على أساس وجود نوايا خارجية للتدخل من أجل مصالح خاصة على النحو الذي حذرت منه سوريا وقبلها ليبيا أيضاً، ومن ثم احتمال وجود نوايا تؤكد سوء استخدام القرار. وتبرز إمكانية سوء الاستخدام من خلال المعادلة التالية؛ وهي قيام أحد الزعماء المحليين في دولة ما بإثارة مشكلة سياسية لها أبعاد إنسانية ما، تستدرج الدولة إلى رد قمعي عنيف. وتحت غطاء ردّ الفعل هذا تصنع المبررات للتدخل الخارجي. وبذلك تبدو المشكلة التي أثارها الزعيم المحلي مقصودة في حد ذاتها لاستدراج هذا التدخل ولتبريره. وحتى عندما يقع التدخل الخارجي فإنه قد لا توجد ضمانات لنجاحه في مهمته الإنسانية. كما حدث في رواندا وقبل ذلك في الكونغو. وكما حدث في البوسنة أيضاً عندما فشلت قوات الأمم المتحدة -القوات الهولندية- في حماية الثمانية آلاف مسلم الذين التجأوا إليها، والذين تولى الجنرال راتكو ملاديتش وقواته إعدامهم جميعاً على مرأى ومسمع من هذه القوات. بل إن التدخل الخارجي يمكن أن يساء استخدامه كما فعلت القوات الروسية في جورجيا مثلاً. كما يمكن أن يحسن استخدامه كما فعلت القوات الفرنسية في ساحل العاج مؤخراً. ومن هنا، ولأن الدول القادرة على التدخل ليست جمعيات خيرية، ولأن لها مصالح أمنية واستراتيجية، ولأنها وحدها القادرة على تحمل أعباء ونفقات التدخل العسكري، فإن مبدأ التدخل يبقى مفتوحاً دائماً لإمكانية سوء الاستخدام والتوظيف. صحيح أن هناك أسباباً إنسانية تدعو أحياناً إلى التدخل الخارجي لوقف المجازر وأعمال التصفية العرقية وانتهاك حقوق الإنسان والجماعات التي قد تحدث في أية دولة في العالم، إلا أن آلية التدخل، وكيفية تطبيقه، وتوقيت توقيفه، تحتاج إلى إعادة نظر في ضوء التطبيقات التي عرفها العالم منذ عام 2005 وحتى اليوم. ولاشك أن اللغة المطاطية للقرار الدولي تساعد على توظيفه في كل الاتجاهات، سواء باتجاه تعزيز منطق الدول المتدخلة من أجل تبرير تدخلها، أو باتجاه تعزيز منطق الدول المتدخَل فيها من أجل معارضة هذا التدخل والطعن في أهدافه "الحقيقية"! ولكن ماذا بعد التدخل الخارجي وماذا بعد إنجاز مهمته؟ في السابق، كان زعيم دولة ما عندما يتهم بالمسؤولية عن ارتكاب الجرائم ضد الإنسانية يجد مأوى له في دولة أخرى. وكانت تقدم له المساعدة الدولية من أجل إيجاد هذا المأوى. فالرئيس الإثيوبي السابق مانغيستو هيلي مريام المتهم بارتكاب مجازر 1977- 1978 لا يزال منذ عام 1991 ضيفاً على زامبيا على رغم صدور حكم في عام 2006 بإدانته بارتكاب مجازر جماعية ضد الشعب الإثيوبي. وقد عرضت على العقيد القذافي دعوة للجوء إلى فنزويلا أو إلى جنوب إفريقيا. كما لجأ الرئيس التونسي السابق بن علي إلى السعودية التي سبق أن استضافت أيضاً الرئيس الأوغندي عيدي أمين مدة 23 عاماً حتى وفاته. ولكن اللجوء مشروط الآن بعدم صدور حكم بالإدانة أو صدور مذكرة اتهام دولية بحق الرئيس اللاجئ عن محكمة الجنايات الدولية في لاهاي. فإذا سبقت التسوية السياسية صدور الحكم تسقط كل التهم وفي ذلك طعنة للعدالة. فأثناء محادثات "دايتون" في الولايات المتحدة لتسوية قضية البوسنة مثلاً، حاول المفاوض الصربي أن يُضمن اتفاق التسوية نصاً يقول بعدم ملاحقة الجنرالات الصرب الذين ارتكبوا جرائم الحرب. ولكن البوسنيين أصروا على الرفض وتعاطف معهم المفاوض الأميركي. ولو حدث العكس لما جرت محاكمة ميلوسوفيتش وكاراديتش والآن ملاديتش بالجرائم التي ارتكبوها طوال خمس سنوات من الحرب. إن القاعدة العامة هي أن الزعيم الذي يقتل شعبه، يفقد شرعيته، لأن الشرعية مستمدة من الشعب. ولكن من الذي يصدر الحكم عليه بعدم الشرعية؟ ومن الذي ينفذ بحقه الحكم؟ هل هي مسؤولية الدول القادرة على التدخل العسكري الخارجي؟.. أم أنها مسؤولية مجلس الأمن الدولي بموجب القرار "ر2 ب"؟ أم أنها مسؤولية الشعب الذي يتعرض للمجازر؟ لقد وفرت مصر على نفسها عناء طرح كل هذه الأسئلة بعد إسقاط مبارك. إذ أن السلطات المصرية تتولى بنفسها محاسبته ومحاكمة نظامه.