لا تكتمل أي ثورة إلا بتحقيق أهدافها دون نقصان ولا مواربة. وهذه الأهداف لا تقتصر فقط على ما يطلقه الثوار في اللحظات الأخيرة من مطالب وأمنيات وإنما تمتد أيضاً لتشمل كل ما حواه جدول أعمال حركات النضال الوطني طيلة فترة "الاختمار الثوري". فالثورات لا تقوم فجأة ولا تأتي خلسة، وإنما تمر بفترة مخاض طويلة تتعدد فيها أشكال الكفاح ضد الاستبداد والفساد، ولكنها لا تمتلك القوة الدافعة أو الطوفان الكبير الذي يواكب الثورة سواء على مستوى انخراط جماهير غفيرة في العمل السياسي الرامي مباشرة إلى إحداث تغيير جذري في بنية السلطة وتوجهات الجماعة الوطنية، أو على مستوى اكتمال الأفكار وصفاء المطالب وحدتها التي يرفعها الثائرون عياناً بياناً، وجهاراً نهاراً. والثورة الشعبية المصرية التي نعيش اليوم في رحابها ليست استثناء من هذه القاعدة، التي رسختها الممارسات الإنسانية عبر تاريخ طويل. فالثورة انطوت على طاقة جبارة جعلتها تنجز مهمتها الأولى باقتدار جلي، ولكنها لا تزال بحاجة إلى تجدد "القوة الدافعة" التي تمكنها من إكمال طريقها بنجاح، وهي مسألة يمكن تحقيقها بسهولة حال صدق عزمنا، وتشابكت أيادينا، وتعززت إراداتنا، واقتنعنا اقتناعاً لا يتزعزع بأن ما قمنا من أجله في 25 يناير 2011 يحتاج منا إلى أن نظل واقفين حوله لنرعاه، ونحافظ عليه، وننفخ فيه من أرواحنا فتظل جذوته متوقدة. وتواصل الثورة لا يتوقف فقط على هذه الرعاية وإنما يتطلب أيضاً اليقظة في مواجهة كل من يريد بها شرّاً، سواء كانوا لصوص الثورات من المتسلقين والانتهازيين والراقصين على الحبال، أو مدبري الثورة المضادة الذين يتحينون أي فرصة ولو ضئيلة ليضربوا الثوار في مقتل، أو ممن يحاولون أن يفرغوا الشحنة الثورية تباعاً حتى تتلاشي تماماً. والفريق الأخير لا يضم عناصر النظام الذي سقط فحسب، بل يمتد في الوقت نفسه ليشمل أناساً تحمسوا للثورة في بدايتها ثم تراخت عزائمهم بمرور الوقت إما عن قصر نفس أو قلة حيلة وإما عن رضا بالمكاسب الصغيرة واستسلام للحسابات الضيقة والبحث عن المنافع الشخصية. وحتى نفهم كل هذا جيداً علينا أن نمعن النظر في تجارب ثورية أخرى، لنتلافى ما وقعت فيه من أخطاء، ونتمسك بما ربحته من صواب، وبذلك نستطيع أن نقف على التدابير اللازمة التي تمكننا من استكمال ثورتنا، دون التفات إلى أصحاب الأحلام المتواضعة، الذين لا يزالون مخلصين للمبدأ الذي يقول: "سكن تسلم"، والذين يعيشون في نشوة تنحي مبارك، ويعتبرون أن غيابه يعني اكتمال الثورة، وانتصارها نصراً أخيراً، وهذه، والله، خدعة كبرى. ولنبدأ بتجربة تشيلي، حيث خرج نصف مليون مواطن عام 1985 ليقولوا "لا" للديكتاتور، ثم انضم الناس إليهم في ثورة سلمية شارك فيها سبعة ملايين من دون قائد مطلق أو طليعي متفرد، حتى تمكنوا من إسقاط "بينوشيه" عبر انتخابات رفعوا فيها شعار "لا للطاغية تعني نعم للديمقراطية". لكن الانتقال إلى نظام حكم ديمقراطي لم يتم بين عشية وضحاها، لأن قوة الدفع الثورية لم تحافظ على مستواها زمناً طويلاً، واستسلم الناس لإصلاحات تجميلية وتدريجية، لم تنتج لتشيلي النظام الأمثل حتى هذه اللحظة. أما ثورة جواتيمالا فتقدم لنا مثلًا ناصعاً على كيفية تصرف بعض العسكر عقب استيلائهم على السلطة. وقد بدأت الثورة حين طالب خمسة وأربعون محاميّاً بعزل القاضي الذي أصدر أحكاماً جائرة على جميع المعارضين السياسيين، ثم طالب مائتا مدرس بزيادة أجورهم، وتوالت المطالب التي تنادي بالحرية والعدل الاجتماعي، فتصدى لها الجنرال "أوبيكو" بالقمع وإعلان الطوارئ، فواجه الناس قمعه بالعصيان المدني وطالبوه بالتنحي. وفي الأول من يوليو عام 1944 تنازل الدكتاتور عن الحكم لصالح حكومة يترأسها ثلاثة من الجنرالات اتخذوا إجراءات إصلاحية جزئية، ولكن أحدهم حاول أن ينفرد بالحكم فرد عليه الآخر بانقلاب ودخلت البلاد في نفق مظلم وعاشت أياماً عصيبة، ولم يربح الشعب الديمقراطية التي كان يحلم بها لحظة تنحي "أوبيكو". وليكن لنا في الثورة البلشفية عبرة وعظة، وهي إن كانت ثورة "جائحة" أدت إلى تغير كبير في العالم بأسره فإن فيها لمحات مفيدة لنا. فالثورة بدأت في 23 فبراير عام 1917 بمظاهرة نسائية، وفي اليوم التالي تظاهر مائتا ألف عامل في "بتروغراد"، تلاه إضراب عام، ثم احتل المتظاهرون الشوارع بمشاركة الجنود، وتم تكوين "المجالس الثورية" أو "السوفييتات" وتشكلت حكومة مؤقتة وتنازل القيصر عن الحكم. ولكن آخرين جنوا ثمار الثورة غير الذين بدأوها، وأقصد البلاشفة الذين استغلوا إخفاق الحكومة في تلبية مطالب الشعب، فسيطروا على السوفييتات، وقاموا بانتفاضة مسلحة في 24 أكتوبر 1917 حتى أحكموا قبضتهم على قصر الشتاء، مقر الحكومة المؤقتة، وأحلوا محلها حكومة أخرى بقيادة لينين. وقد توافرت فرصة جيدة للثورة البلشفية لأن تطور مسارها، وترمم شروخها، وترتق ثقوبها، حين طرح "ليو تروتسكي" (1879- 1940) أفكاراً لمشاركة الجماهير في صناعة القرار والحد من النزعة الاستبدادية للقيادات، ولكن ستالين تمكن من التغلب عليه، عقب وفاة لينين، ونفاه عام 1928. وقد انتهت هذه الثورة من الناحية العملية بحلول مارس 1921 إثر سحق تمرد "كرونستاد"، وهزيمة المعارضة العمالية، وحظر الفصائل المختلفة في الرأي والتوجه، وذلك في مؤتمر الحزب العاشر. إن الثورات الناقصة مقابر للشعوب، وليس أمام أي شعب ثار من طريق سوى استكمال ما بدأه، وإلا دفع ثمناً مضاعفاً لتراخيه أو تكاسله وانفضاضه عن ثورته.