في أعقاب التداعي الاقتصادي الذي أدى إلى زيادة عجز الموازنة الأميركية بدرجة كبيرة، بدأ الديمقراطيون والجمهوريون يتفاوضون من أجل" المضي قدماً في إجراء خفض في الانفاق يقدر بتريليونات الدولارات"، كما قال "إيريك كانتور"، زعيم الأغلبية في مجلس النواب الأميركي مؤخراً. وهذا الخفض الضخم الذي سينتج عنه إلغاء وكالات حكومية كاملة، وبرامج، وتخفيض الأجور والرواتب... سيؤدي لتقليص غير مسبوق في حجم دولة الرفاه، وسيؤثر في النسيج الاجتماعي الأميركي كما تطور خلال القرون الماضية. بيد أن الشيء المفقود في المفاوضات التي دارت بين الجمهوريين والديمقراطيين، هو تقدير الأصول التاريخية لدولة الرفاه الأميركية، والتي بدأت قبل زمن طويل من عهد الرئيس روزفلت ووثيقة "العهد الجديد" التي قدمها للأمة، وقبل وقت طويل على حالات التداعي الاقتصادي التي شهدها التاريخ الأميركي. وتماماً مثلما هو الحال في عصرنا، كان العصر الذهبي للاقتصاد الأميركي هو في نفس الوقت عصر ازدهار كبير، ثم إفلاس ضخم. بيد أنه لم يكن هناك إفلاس أكبر من الأزمة المالية التي بدأت في سبتمبر 1873، بعد سقوط بنك "جاي كوك وشركاؤه"، أكبر بنك استثمار أميركي آنذاك، لنفس الأسباب تقريباً التي أدت لسقوط مؤسسة "ليمان براذر" منذ عامين تقريباً. وكان انهيار ذلك البنك سبباً في وقوع الأزمة الاقتصادية الأولى خلال العصر الصناعي، والتي استمرت 65 شهراً متتالية، وكانت سبباً في تعثر القاعدة الصناعية الأميركية وتوقفها تقريباً، كما كانت سبباً في إعلان نصف عدد شركات السكك الحديدية إفلاسها، وإغلاق نصف عدد أفران صهر الحديد، وانهيار صناعة استخراج الفحم. وقد عرفت هذه الفترة في الأدبيات التاريخية الأميركية بـ"الكساد العظيم" وذلك قبل أن يحل الكساد العظيم المعاصر في نهاية عشرينيات وبداية ثلاثينيات القرن الماضي. وفي ثمانينيات القرن التاسع عشر لم تفعل الحكومة شيئاً يذكر لمواجهة الكارثة الداهمة، كما لم تقم أي مؤسسة فيدرالية بالتخفيف من معاناة العائلات الأميركية، كما لم يكن هناك بنك مركزي يضطلع بمحاربة الانكماش، ولم تكن هناك أيضاً حُزم حوافز حكومية كبيرة، بل إن مثل تلك الإجراءات المالية لم تكن قد عرفت بعد. وعندما هبط الطلب نتيجة للانكماش، اضطرت الشركات والمصانع إلى إجراء تخفيضات كبيرة في الأجور والرواتب لتبدأ الأزمة في الدوران. وعندما بدأ النمو مجدداً فيما بعد، كان التقدم بطيئاً، وزادت من بطئه الأزمات الدورية التي بدأت تضرب الاقتصاد. في ذلك الوقت لم يقدم أي حزب حلولاً ناجعة للأزمة الطاحنة، بل ما حدث هو أن الأحزاب انقسمت في الرأي ليس على الحلول وإنما على الغنائم. كما لم يكن الحزبان، الجمهوري والديمقراطي، على استعداد لمواجهة أقطاب الرأسماليين من مالكي الشركات والمؤسسات الكبرى. نتج عن ذلك ظهور حركات متمردة على الأوضاع السائدة، تمثلت في ائتلافات مضادة للاحتكار، وأحزاب إصلاحية، ومرشحين عن أحزاب عمالية، بدأت جميعها تستقطب أنواعاً مختلفة من التأييد والدعم. في ذلك الوقت تجاورت الخسائر الفادحة والتعاسة الاقتصادية للكثيرين، مع مكاسب هائلة للقليلين، وهو ما خلق حالة استقطاب حادة في المجتمع. وكان طبيعياً أن تلجأ اتحادات العمال للإضرابات والمظاهرات، بل وإلى العنف واستخدام الأسلحة وإطلاق الرصاص مما أسفر عن سقوط العديد من القتلى. وأدت الفروقات الهائلة بين الأغنياء والفقراء من جهة، وتركز الثروة في أيدي أعداد قليلة من الأميركيين من جهة ثانية، وعجز الحكومة عن التخفيف من حدة الأزمة الطاحنة من جهة ثالثة، إلى الوصول بالبلاد إلى حافة الحرب الطبقية والتفككك الاجتماعي. في ذلك الوقت بدأ شبح النظام الاجتماعي الأوروبي الذي انقسمت فيه المجتمعات انقساماً لا رجعة فيه بين طبقات ارستقراطية تمتلك ثروات هائلة وتعيش نمط حياة باذخاً وطبقات أدنى تنقسم بدورها إلى شرائح متعددة لا تمتلك من المال إلا ما يكفي بالكاد لسد احتياجاتها... بدأ هذا الشبح يهاجر إلى السواحل الأميركية. وبدأ الأغنياء الأميركيون، كما كان يحدث بالنسبة للأغنياء الأوروبييين، يخشون على السلم الاجتماعي الذي يمكنهم من التمتع بثرواتهم الطائلة. تساءل الأغنياء الأميركيون بيأس: ما هي القوة التي يمكن أن تخفف من الاضطرابات الاجتماعية والحد من "العداء بين الأغنياء والفقراء". وفي أميركا الحالية، نجد أن هناك ثروات جرت مراكمتها، تناظر الثروات التي جرت مراكمتها في العصر الذهبي القديم، بعضها مملوك من قبل أشخاص مثل "تشارلز جيه كوش" و"ديفيد اتش كوش" و"بيتر جيه بيترسون"... يستخدمونها في الترويج لخفض الانفاق الاجتماعي. قبل أن يمضي الخصوم والحلفاء في الكونجرس قدماً في تفكيك دولة الرفاه، يجب أن يفكروا جدياً في الدواعي لتطبيق سياسات الرفاه أساساً. إن تلك القلة من أثرياء العصر الذهبي، والذين وافقوا في البداية على نظام الرفاه الاجتماعي وعلى القواعد والنظم المعمول بها في الدولة، فعلوا ذلك بدافع من الخير الكامن في قلوبهم، وفعلوه أيضاً، لأن البدائل كانت تبدو مخيفة للغاية.