رغم الطابع التقني الذي يطغى غالباً على الاقتصاد كعلم قائم بذاته يستند إلى حسابات دقيقة، يبقى في الأصل ظاهرة ثقافية لا يمكن فصلها عن التاريخ والأخلاق، لاسيما بعد تراجع مصداقية علم الاقتصاد كما يُروج له حالياً في أعين الناس بعد فشله في التنبؤ بالأزمة المالية العالمية الأخيرة وعدم فعالية الخطط المطروحة لمعالجة تداعياتها المستمرة. لذا، يقترح علينا الاقتصادي التشيكي "توماس سيدلاسيك"، في كتابه الذي نعرضه هنا وعنوانه "اقتصاد الخير والشر... البحث عن معنى اقتصادي من جلجامش وحتى وول سريت"، يقترح علينا الرجوع إلى الأصول الحقيقية للاقتصاد، بعيداً عن الرياضيات والنماذج الحسابية والمنحنيات البيانية التي تحفل بها كتب الاقتصاد، والاقتراب أكثر فأكثر من الأفكار والقيم الكامنة وراء النشاط الاقتصادي للإنسان. فالاقتصاد كما يراه الكاتب ظاهرة إنسانية بامتياز، وهو في جذروه يرجع إلى الأساطير الأولى للحضارة الإنسانية التي صاحبتها منذ فجر التاريخ، أما ما نعرفه اليوم من نظريات اقتصادية ونماذج حسابية، فلم يظهر إلا في أوروبا القرن الثامن عشر بفعل تغير نظرة الإنسان لنشاطه الاقتصادي وتحول البحث المحموم عن الثروة إلى هدف أسمى لأي نشاط اقتصادي. فقبل القرن الثامن عشر الذي شهد بداية علم الاقتصاد بطريقته الميكانيكية المعروفة، عاش الاقتصاد بصحبة الأساطير والدين والفلسفة، بل هي تشكل الأصول الحقيقية للاقتصاد كما عرفه أسلافنا منذ حضارة بلاد الرافدين وحتى ما قبل الثورة الصناعية، وبهذا المعنى يتحول الكتاب إلى قراءة نقدية للتاريخ الاقتصادي كما كتبه الغرب. فالكاتب الذي عمل مستشاراً اقتصادياً للرئيس التشكي السابق "هافل"، ويعمل الآن مديراً لأحد أبرز البنوك السويسرية، يرجع بنا إلى التاريخ لتأكيد فكرة أساسية تقول إن الاقتصاد لا يجب أن يكون بالضرورة ما هو عليه الآن، وأن الاعتقاد السائد حالياً بأن النمو اللاهث للاقتصاد هو المبتغى الأوحد ليس اعتقاداً صائباً في جميع الأحول. فخلال أربعة آلاف سنة الماضية، أدركت البشرية أن عجلة الاقتصاد تدور في حركة دائرية لا تخرج عنها، إذ لا تشتد الأزمة إلا لتنفرج، فسنوات الازدهار تتحول إلى أخرى عصيبة. ولمواجهة الدورة الاقتصادية كان لابد من الادخار كجزء أساسي من حياة الإنسان في الحضارات الغابرة، ادخار يشمل المحاصيل الزراعية الأساسية والمياه وغيرها من مرتكزات الحياة. وهنا يستشهد الكاتب بقصة النبي يوسف، والتي فسر فيها النبي حلم الفرعون وأشار عليه بتخزين القمح لسبع سنوات لما سيعقبها من سنوات سبع أخرى عجاف. بل ويؤكد المؤلف الدورة الاقتصادية الأولى التي عرفها الإنسان من خلال أسطورة جلجامش الشهيرة في بلاد الرافدين بعدما فقد "أنكيدو" ميزة الحياة الأبدية التي كان ينعم بها وصار لزاماً عليه البحث عن أسرار الخلود مرة أخرى بالعودة إلى موطنه... كل ذلك يعني في نظر الكاتب فلسفة مغايرة للاقتصاد ترى فيه حركة دائرية لا تكاد تنطلق حتى تعود مرة أخرى إلى الأصل. وفي الكتب السماوية كان التركيز، يقول الكاتب، على الراحة بعد العمل والتنبيه إلى أن النعيم والخلود إنما هو في الحياة الأخرى. ولا ينسى الكاتب التعريج على فلاسفة اليونان القدماء الذين صاغوا معايير محددة في السعادة الإنسانية القائمة في نظرهم على القناعة والبحث عن جودة الحياة بدلاً من مراكمة الثروة التي دائماً ما تحمل في طياتها الأزمات. وفي مقابل النظرة الإنسانية القديمة للاقتصاد، والتي اتسمت برؤية دائرية تعتبر أن الأمور لا تنطلق إلا لكي ترجع مرة أخرى إلى نقطة البداية، جاءت النظريات الحديثة التي صاغها علماء الاقتصاد للإعلاء من شأن التقدم غير المستدام الذي خلق لنا الأزمات. وفي هذا السياق يشخص الكاتب الواقع الراهن باعتباره واقع الأزمات، هذه العبارة التي اخترقت المجالات جميعاً، فصرنا أمام أزمة ثقافية وأخرى سياسية واجتماعية ثم اقتصادية، وأصبح الاقتصاد في ظل هذا المفهوم قائماً على منحى تصاعدي في التقدم وصار النجاح يُحسب بالناتج الإجمالي المحلي، بصرف النظر عن الاعتبارات الأخرى، وبات الشغل الشاغل للدول تحقيق معدلات قياسية للنمو الاقتصادي، حتى لو عبر الديون كما اتضح مؤخراً بالنسبة لليونان وإيرلندا ومجتمعات أخرى أقامت ازدهارها على أسس واهية حركتها فكرة الاقتصاد المتعالي عن احتياجات الناس العادية، تلك الاحتياجات التي زيفتها الآلة الإعلامية وهي تخلق وهم الحاجة وتزين الإفراط في الاستهلاك. زهير الكساب الكتاب: اقتصاد الخير والشر... البحث عن معنى اقتصادي من جلجامش وحتى وول سريت المؤلف: توماس سيدلاسيك الناشر: أوكسفور بريس تاريخ النشر: 2011