يتضمن تصور تركيا لعلاقاتها العربية عناصرَ منها أن تركيا ذاتها وريثة إمبراطورية كانت أحد الأقطاب الدولية، وهي تحلم اليوم بقيام علاقات تقوم على "الولايات العربية العثمانية"، وتنامي الاقتناع بأن التوجه التركي غرباً لم يأت بما كان مرجواً منه، كما أن تركيا باتت تدرك حجم القدرة الاقتصادية العربية، وأنها أصبحت ترى في نفسها القدرة على ملء الفراغ في مركز القيادة الإقليمية الشرق أوسطية. تلك باختصار أهم تصورات السياسة التركية حالياً إزاء العالم العربي، كما يتناولها الدكتور عمر الحضرمي في كتابه "العلاقات العربية التركية"، من ثلاث زوايا: الجذور التاريخية، والواقع القائم، والآفاق المستقبلية. والكتاب دراسة أكاديمية رصينة تشتمل على ستة فصول، الأول والثاني منها يقدمان تمهيداً نظرياً حول مفاهيم العلاقات الدولية والأمن القومي والحركة السياسية والنظام الإقليمي، مع تركيز خاص على النظام الإقليمي العربي والنظام الشرق أوسطي ومفهوم الجوار الجغرافي في النظام الإقليم العربي. أما الفصل الثالث فيعرض مقاربات حول العلاقات العربية بالجوار الإقليمي بمعطياته التاريخية والجغرافية والاقتصادية والديمغرافية والعقائدية والأمنية. فيما تتمحض بقية فصول الكتاب للعلاقات العربية التركية بين الماضي والمستقبل. وعلى مدى ستمائة صفحة هي حجم الكتاب، يؤكد المؤلف حرصاً واضحاً من جانب تركيا على تكريس وجودها، ففي خمسينيات القرن الماضي لعبت دوراً بارزاً في بناء تحالف إقليمي شرق أوسطي ضمن السياسة الدفاعية الغربية ضد "الخطر السيوفييتي"، فكانت حجر الزاوية في حلف بغداد الذي تشكل عام 1955، كما وافقت في عام 1957 على مبدأ إيزنهاور الذي دعا إلى مشاركة الولايات المتحدة في أمن المنطقة. وخلال أيام الشاه تعاونت تركيا مع إسرائيل وإيران في المجالات الأمنية والعسكرية، وتطور تعاونها مع إسرائيل خاصة في محاربة "الإرهاب" خلال الثمانينيات. وفي عام 1985 عقدت تركيا اتفاقاً أمنياً مع العراق لمطاردة المتمردين الأكراد، واتفاقاً آخر مع سوريا لضمان أمن الحدود بين البلدين عام 1987. وعن دور تركيا في نظام الشرق الأوسط الجديد الذي طرحت فكرته في بداية التسعينيات، يقول المؤلف إنه حيث كان ذلك النظام قائماً على التصورات الأميركية، وحيث كانت تركيا قد ارتبطت مع الولايات المتحدة وأوروبا باتفاقات وأحلاف عسكرية، فقد برز الدور التركي قوياً في تحديد مصير المنطقة واستراتيجياتها، ووجدت بعض الدول العربية نفسها مضطرة لإبرام اتفاقيات أمنية ثنائية مع تركيا، وذلك للاستفادة من ارتباطاتها الغربية، وللمزايا التي يوفرها موقعها الجغرافي الاستراتيجي، ولكونها الدولة الأقوى في الشرق الأوسط، والبلد الإسلامي الوحيد العضو في كل من "مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي" و"حلف شمال الأطلسي". ومن جانبها فإن تركيا لم تخف الرغبة في القيام بمهمة أساسية في إقامة السلام بمنطقة الشرق الأوسط، فهي تملك أوراقاً كثيرة تمكنها من طرح مبادرات لرسم نمط المنطقة وشكلها. وبعد وصول "حزب العدالة والتنمية" إلى سدة الحكم في أنقرة عام 2002، تنامت طموحات تركيا وأصبحت تسعى لأن تكون القوة الإقليمية الأكبر، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك حيث باتت تعمل على أن تكون من القوى المتقدمة في العالم، وأوقفت الكثير من مساعيها السابقة لنيل عضوية الاتحاد الأوروبي، كي تركز جهودها على بناء اقتصادها الذي خرج فعلاً من الأزمة وحقق قفزات نوعية خلال الأعوام الثمانية الماضية، بينما دخلت بعض دول الاتحاد في نفق الأزمات المالية والاقتصادية الخانقة. ومن هنا جاءت أطروحة العثمانية الجديدة التي يؤكد منظرها، وزير الخارجية أحمد داوود أغلو، على أهمية الدور العثماني وتأثيره من ضفاف الأدرياتيك إلى سور الصين العظيم. ويقول المؤلف إن تركيا برزت مجدداً كدولة قوية عقب ضرب العراق، وتوفرت لها ظروف مواتية للقيام بدور إقليمي أكثر فاعلية، لاسيما في المفاوضات السورية الإسرائيلة، وفي ملف المصالحة الفلسطينية الداخلية، ومسألة الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة، والملف النووي الإيراني. وفي رصده مستقبل العلاقات العربية التركية، يقدم المؤلف قراءات سياسية واقتصادية وأمنية في مشاهد التباعد والتضاد من جهة ومشاهد التلاقي والتعاون من جهة ثانية، ثم يحاول الإحاطة بالتداعيات المحتملة للدور التركي الجديد في الشرق الأوسط وفي آسيا الوسطى، وقضية الهوية التركية الحائرة بين الاندماج في أوروبا والتقرب من الشرق، والقضية الاقتصادية (النفط، المياه، التجارة الخارجية، عضوية الاتحاد الجمركي الأوروبي)، والقضية الأمنية (المسألة الكردية، مسألة الحدود، الاتفاق التركي الإسرائيلي)، ثم القضية القبرصية، وأخيراً القضية العقائدية الدينية. لكن ماذا عن الطرف الآخر من المعادلة، أي الجانب العربي... فما رده على السؤال التركي حول تحفيز الشراكة الاقتصادية ودفع التحول الديمقراطي، وعلى التوجه المتنامي من جانب تركيا نحو تقليص علاقاتها بإسرائيل؟ إنه سؤال العثمانية الجديدة وهي تشق طريق عودتها نحو الشرق! محمد ولد المنى الكتاب: العلاقات العربية التركية المؤلف: د. عمر الحضرمي الناشر: دار جرير تاريخ النشر: 2011