في خطاب أوباما الذي ألقاه في 22 يونيو المنصرم عن أفغانستان، وردت عبارة مميزة هي:"لقد حان الوقت كي نركز على بناء الأمم هنا في الوطن". ولا شك أن عبارة كهذه ستلقى صدى إيجابياً لدى قواعد انتخابية أميركية سئمت الحروب الخارجية، وتتطلع إلى التركيز على المشكلات الداخلية. بيد أن الحقيقة هي أننا إذا فكرنا جيداً في مغزاها سنجد أنها عبارة بعيدة تماماً عن الصواب. ففي أي مرة كانت أميركا تتجنب التزاماتها في الخارج وتنطوي على نفسها بالداخل، كانت النتائج دائماً كارثية. إن الفترة الأكثر انعزالية في تاريخ البلاد - عقد الثلاثينيات من القرن الماضي - تبعتها الحرب العالمية الثانية. والنزعة الانعزالية التي اتخذت شعار: "عودي إلى الوطن يا أميركا"، تبعها سقوط فيتنام الجنوبية والتطهير العرقي في كمبوديا ثم أزمة الرهائن في إيران، والغزو السوفييتي لأفغانستان. وفي حقبة التسعينيات، أدت الرغبة التي سادت في أعقاب الحرب الباردة في إنفاق" عائد السلام" إلى جعل أميركا تغض الطرف عن التهديد المتصاعد لتنظيم "القاعدة". السؤال هنا هو: هل الانعزالية حقاً الطريق الذي نريد أن نتبعه في عالم اليوم الذي تتسلح فيه إيران نووياً، وتنقلب فيه باكستان على الغرب، وتسعى فيه كوريا الشمالية لتصدير تقنيتها المدمرة، وينتشر فيه الاضطراب في الشرق الأوسط، ويستمر فيه تنظيم "القاعدة"، الذي ما يزال أبعد ما يكون عن الهزيمة وتتعاظم فيه قوة الصين. إذا أرادت الولايات المتحدة وحلفاؤها معالجة تحديات الأمن القومي بنجاح، فليس أمامها من وجهة نظري من خيار سوى الانخراط في بناء الأمم، على الأقل في بعض الأحيان، حتى إذا كانت تلك الكلمة قد أصبحت من الكلمات الملعونة في لغة السياسة الأميركية خلال الآونة الأخيرة. وقلة ثقة الأمة الأميركية في بناء الأمم بدأت مع الصومال عندما وصلت القوات الأميركية إلى هناك للمرة الأولى عام 1992 للقيام بمهمة إنسانية تتمثل في التخفيف بقدر الإمكان من وطأة المجاعة المنتشرة هناك. ولكنها اكتشفت أن معظم المشكلات في هذا البلد هي من صنع البشر، وأنه لا يمكن إنجاز شيء ما لم يتم فرض الاستقرار هناك، ولكن مهمتها في هذا الصدد منيت بفشل ذريع وهزيمة مهينة عندما اسقطت المليشيات الصومالية طائرة "بلاك هوك"، ما أسفر عن مصرع 19 جندياً أميركياً. استخلص معظم الأميركيين عبرة من هذا الحادث، وهو أن الولايات المتحدة يجب أن تنأى بنفسها عن بناء الأمم، ولكنهم لم ينتبهوا إلى أن مهمات بناء الأمم اللاحقة في البوسنة وكوسوفو كانت أكثر نجاحاً. والمفارقة في هذا السياق أن المهمة الصومالية، على الرغم من أنها انتهت بالفشل إلا أنها أبرزت في نفس الوقت السبب الذي يجعل من مهمة بناء الأمم بالنسبة للولايات المتحدة، شيئاً لا يمكن تجنبه. فبعد أن خرجت الولايات المتحدة من الصومال، وهي تجرجر أذيال الخيبة، تحول هذا البلد المنكوب إلى ملاذ آمن للإرهابيين والقراصنة. واليوم تتدهور الأحوال فيه، ويقترب تنظيم متطرف اسمه "شباب المجاهدين" من السيطرة عليه، كما حدث مع "طالبان" من قبل في التسعينيات، ليصبح هذا مثالاً آخر على ما يمكن أن يحدث عندما تمتنع الولايات المتحدة عن المساعدة في بناء حكومة قادرة على الحياة والاستمرار في بلد يحتاج إلى ذلك بصورة ماسة. وإذا أردنا مثالاً آخر على خطورة تهرب الولايات المتحدة من بناء الأمم عندما يستدعي الأمر ذلك، فليس هناك ما هو أوضح من مثال العراق، حيث ربطت الولايات المتحدة تحت إدارة بوش عملية بناء الأمم في ذلك البلد مع الممارسات الكريهة لعهد كلينتون، ورفضت الاستعداد للعملية جيداً.وكانت النتيجة أن العراق قد تفكك بمجرد أن اسقطت الولايات المتحدة النظام القائم هناك. العراق أكثر استقراراً الآن، ولكن ذلك لم يحدث إلا بعد أن صححت إدارة بوش أخطاءها الأولية وعملت على تحسين الموقف الأمني، وزيادة قدرة العراقيين على حكم انفسهم. وعلى الرغم من أن عملية بناء الأمم ما زالت مستمرة حتى الآن نظراً لصعوبتها وحاجتها إلى الكثير من الوقت والمال، فإنها كانت من دون أدنى شك بديلاً أفضل بكثير من البديل الآخر، وهو سياسات العنف العدمي التي هددت بانهيار العراق عامي 2006 و2007. اليوم نجد أن الولايات المتحدة منخرطة إلى جانب العراق بالطبع في عمليات بناء أمم في أفغانستان وفي عدد من الدول الأصغر مثل أفغانستان وتشاد والفلبين والمكسيك. في كل تلك البلدان تحاول أعداد قليلة من القوات والمستشارين، مساعدة دول لا تمتلك الإمكانيات الكافية على تأمين أراضيها ضد العصابات والإرهابيين وغير ذلك من التهديدات. وبناء الأمم قلما يتطلب أعداداً كبيرة من الجنود والمستشارين، بل إن واحدة من أكثر الطرق فعالية لإنجاز مهام هذا المشروع هي مساعدة الحكومات الأجنبية على ترتيب بيتها من الداخل. المشكلة في نظري ليست هي أننا قد نورط أنفسنا في عمليات بناء أمم يتبين فيما بعد أنها في غاية الصعوبة، ولكن أننا نقوم بها في حالات عديدة على نحو رديء. فالقوات الأميركية لم تكيف نفسها بعد على تبني هذه العملية باعتبارها جزءاً من مهمتها الأصلية المكلفة بها في البلدان المختلفة، وهو ما ينطبق أيضاً على وزارة الخارجية الأميركية. وهذه المهمة - بناء الأمم - تستقر في نهاية المطاف على عاتق"الوكالة الأميركية للتنمية الدولية"، ولكن المشكلة أن هذه الوكالة تعاني من نقص الموارد لدرجة أنها تحولت إلى مجرد مكتب إشراف أو مراقبة على تنفيذ العقود. وكما ظللت أطالب بذلك منذ بداية غزو العراق، فإننا بحاجة ماسة إلى وزارة جديدة ولنطلق عليها "وزارة السلام" مثلاً لتعزيز قدرتنا على القيام بعمليات بناء الأمم. فتلك العمليات سواء أحببنا ذلك أم لا، سوف تظل بمثابة مهام لا يمكن للولايات المتحدة أن تتجنبها، لأن البديل - ترك مناطق مهمة من دون قوة تحكمها أو تسيطر عليها - هو بديل غير مقبول بأي صورة من الصور. فبدلاً من اتهام عملية بناء الأمم ورميها بكل نقيصة، على إدارة أوباما أن تعمل على تحسينها. ------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "إم.سي.تي انترناشيونال"