يمثل يوم السبت 9 يوليو (بعد غد) علامة فارقة في تاريخ السودان الحديث، عندما يعلن "سيلفا كير" استقلال دولة جنوب السودان، ويطوي علم السودان الذي ظل يرفرف في سماوات الجنوب والشمال والشرق والغرب، رمزاً لسيادة واستقلال السودان لخمسة وخمسين عاماً خلت. وسيؤرخ به السودانيون مثلما كانوا يقولون عن يوم الأول من يناير، يوم استقلال البلاد ورفع علمها المثلث الألوان، حيث سيحفر يوم 9 يوليو في أذهانهم على أنه يوم انفصال الجنوب.. وسيقول الإخوة الجنوبيون إنه يوم استقلال الجنوب. وهو دون شك يوم حزن وأسى وإحباط لآمال وأحلام الوحدويين السودانيين، فيما سيعتبر يوم فرح وبهجة وانتصار للانفصاليين السودانيين في الجنوب والشمال.. أما من تبقى من أجيال الرواد الأوائل الذين صارعوا وناضلوا ضد المشروع الاستعماري البريطاني لتقسيم السودان وفصل عرى الأخوة والتاريخ المشترك بين الوطنيين الجنوبيين والشماليين، فيمثل بالنسبة لهم إخفاقاً لـ"نواياهم الطيبة" حين رفعوا شعار "وطن واحد وشعب واحد"، وقد غاب عنهم وهم يخوضون النضال من أجل حرية الوطن الواحد والشعب الواحد كثير من الحقائق الموضوعية وشغلت بعضهم هموم السلطة، ليجعلوا من شعار "وطن واحد وشعب واحد" حقيقة راسخة ومقبولة بالتراضي والتوافق القومي، فتراكمت الأخطاء إلى أن وصل الأمر بالسودان إلى هذا اليوم، ومن يدري هل يقف الأمر عند هذا، أم أن كرة الثلج ستواصل طريقها وتدفع البلاد لأيام وتواريخ فارقة أخرى مثل ما سيحدث يوم السبت، بعد غد؟ في مثل هذه المنعطفات الخطيرة في تاريخ الشعوب لا يفيد البكاء والنواح على اللبن المسكوب، ولن تجدي المراثي الشعرية البليغة في إعادة الأمور إلى مجراها السابق، وإنما المفيد والمطلوب عقلاً هو أن يقف الناس وقفة حق وصدق مع النفس ليسألوا أنفسهم، لماذا انهار الحلم؟ ولماذا تمزقت البلاد؟ ومن هو المسؤول سياسيّاً وأخلاقيّاً عما جرى للسودان، وما حل به من كوارث وأزمات؟ يخطئ من يظن أن انفصال الجنوب واستقلاله هو النهاية غير السعيدة لأزمات السودان التاريخية والموضوعية، بل الأجدر بالعقلاء أن يعلموا أن انفصال الجنوب قد يكون بداية وليس نهاية لهذه الأزمة العميقة والمؤسفة والضاربة بجذورها. بعضها من صنع الجغرافيا والتاريخ، وأكثرها من صنع أيدينا جميعاً وأفعالنا وسياساتنا القاصرة التي يعوزها بُعد النظر السياسي والعقل السياسي المفكر استراتيجيّاً وقوميّاً. انكسر الإناء وانسكب اللبن وأصبحنا في مواجهة حقيقة أن السودان الذي كان بالأمس دولة موحدة، قد أصبح اليوم دولتين، وأن على هاتين الدولتين أن تتعايشا في جوار وسلام وتعاون يحقق مصالح الشعبين المغلوبين على أمرهما، إذ لا مفر للشمال من أن يتقبل ويتعايش مع دولة الجنوب، مثلما أنه لا مفر لدولة الجنوب من أن تتعايش مع دولة الشمال. ولأن حكومة "الإنقاذ" هي التي بيدها السلطة والسلاح وغيرهما، فإن الأمل والمطلوب وطنيّاً وأخلاقيّاً ممن بيدهم السلطة أن يحتكموا للعقل والمنطق والمسؤولية التاريخية والقانونية، وأن يتصرفوا اعتباراً من تاريخ ذلك اليوم كمسؤولين عن مصائر وأرواح السودانيين وسلامة وطنهم، وأن يذكروا ويستفيدوا من تجربة الجنوب الأليمة لتفادي تكرار تلك المأساة الُمرة في جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور بل والشمال أيضاً، لأن خلاصة التجربة أن السلطة مهما قويت فإنها في نهاية الأمر لن تدوم.