تذكرنا احتجاجات اليونان بالاحتجاجات العربية في شكلها العام، إلا أن مضمونها يختلف تماماً، فهي تحدث في بلد ديمقراطي وعضو في الاتحاد الأوروبي، مما استدعى "فزعة" أوروبية لمساعدة اليونان التي تقع على شفا انهيار اقتصادي تام. ومن المعروف أن اليونان تعاني، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية من عدم استقرار سياسي واقتصادي بسبب الانقلابات العسكرية والاضطرابات السياسية، كما أن الروتين والفساد الضاربة أطنابهما في عمق المجتمع اليوناني لم يتم تجاوزهما بالسهولة المتوقعة. وفي كل الأحوال، فإن الأزمة اليونانية تعبر عن أزمة المجتمع اليوناني من جهة، وعن أزمة الاتحاد الأوروبي من جهة أخرى، حيث تتداخل فيها عوامل ثقافية عديدة، وبالأخص الفروق الجوهرية بين الثقافة الأوروبية بشقيها الغربي والشرقي، بما في ذلك ما يتعلق منها بثقافة وقيم العمل والإنتاج، فالشعب اليوناني ملتزم مثلنا نحن العرب والشرقيين بشكل عام بالقيلولة، التي تشكل جزءاً من تقاليده المتوارثة، حيث يمكن ملاحظة أن البلدان التي تعاني أكثر من غيرها في أوروبا هي بلدان "القيلولة" في الأساس، كاليونان وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال. وفي المقابل نجد الجدية الألمانية وثقافة العمل المتشددة والمنتجة، مما ولد عدم رضا لدى الشعب الألماني من تقديم حكومته لحزمة إنقاذ كبيرة لليونان من أجل حماية عملتهم الموحدة "اليورو"، وقبل ذلك حماية البنوك الألمانية والفرنسية المتورطة في الديون اليونانية. أما بشأن الأزمة، فإن هناك أكثر من طرف يتحمل أزمة اليونان وما تلاها من اضطرابات عمقت من الأزمة المالية الخانقة التي تعيشها، والتي تحمل طابعاً اقتصاديّاً بحتاً، في الوقت الذي تحمل فيه الأزمات في البلدان العربية طابعاً سياسيّاً واقتصاديّاً ومعيشيّاً وطائفيّاً عميقاً. والحال أن المسؤولية الأولى تقع على عاتق البنوك الأوروبية، التي قدمت قروضاً دون ضمانات كافية، حيث قدرت حصة البنوك الفرنسية بـ 40 مليار "يورو" والألمانية بـ 25 مليار "يورو"، وهناك أيضاً مسؤولية كبيرة تقع على عاتق البنك المركزي الأوروبي الذي غض النظر عن هذه القروض التي تجاوزت القدرات المالية لليونان وأدخلتها في مرحلة الخطر. وبجانب هؤلاء هناك أيضاً مسؤولية الحكومة اليونانية نفسها، سواء من حيث مراقبة الأوضاع المالية لمؤسساتها أو فيما يتعلق بنظام الضرائب، إذ بسبب الإهمال والفساد، فإن 5 آلاف شخص فقط أعلنوا عن امتلاكهم لأصول تتجاوز مئة ألف "يورو"، وذلك في محاولة للتهرب من الضرائب، إذ كيف يمكن تصديق هذه البيانات في بلد أوروبي يزيد عدد سكانه عن 10 ملايين نسمة؟! وبالإضافة إلى ذلك وللأسباب نفسها لم تتمكن حكومة اليونان من جمع 13.4 مليار "يورو" من الضرائب المستحقة، وهو مبلغ كبير كان بالإمكان أن يكون له شأن في المساعدة في حل الأزمة المالية التي تعاني منها أثينا، حيث لا توجد صورة مشابهة لمثل هذا الوضع خارج بلدان "القيلولة" في أوروبا. وأخيراً، فإن الشعب اليوناني يتحمل جزءاً من المسؤولية بسبب تهاونه في مسائل العمل والإنتاجية، فالاضطرابات والحرائق الحالية التي يقوم بها لن تساهم في حل المشكلة، بل ستزيدها تعقيداً، إذ إن المطلوب معالجة السلبيات ومحاسبة المقصرين والفاسدين والعمل مع الحكومة لعودة دورة الحياة الاقتصادية لطبيعتها حتى ولو جاء ذلك من خلال سياسة التقشف، حيث يمكن بعدها التمتع بحياة مستقرة مع الاستفادة من الأخطاء السابقة، أما في حالة الإصرار على الاستمرار في الاحتجاجات وتعطيل عمل المؤسسات والإضرار بالقطاع السياحي الذي يكتسي أهمية استثنائية للاقتصاد اليوناني، فإن ذلك سيضر بالأوضاع وسيضطر الاتحاد الأوروبي إلى اتخاذ إجراءات ربما تعزل اليونان عن محيطها الأوروبي، وتجعل المحتجين يترحَّمون على فرصة مهمة أتيحت لهم لإنقاذ اقتصادهم وبلدهم من أزمة حقيقية.