إنها أم الفضائح التي استهلتها فضيحة اعتقال أكبر مسؤول مالي دولي بتهمة اغتصاب عاملة تنظيف الغرف في فندق بنيويورك، وإجباره على مغادرة طائرة الخطوط الجوية الفرنسية المتجهة إلى باريس، واقتياده ذليلاً مكتّفاً بثلاثة رجال بوليس أميركيين، ووضعه 10 أيام في زنزانة انفرادية، ومنعه من إجراء أي اتصال باستثناء محامي الدفاع الذي عيّنه قاضي التحقيق، واضطُر بسبب ارتباط منصبه بالأوضاع المالية العالمية الحرجة إلى تقديم استقالته، وهو رهين الزنزانة الانفرادية، ولم يُطلق سراحه على ذمة التحقيق إلاّ بكفالة مالية مدفوعة قدرها مليون دولار، وفرضت عليه الإقامة الإجبارية في المدينة، وحمل شريحة إلكترونية تتيح للبوليس رصد تنقلاته. وتسربت من مكتب وكيل النيابة في حي مانهاتن، حيث جرى التحقيق، تفاصيل مثيرة عن عملية الاغتصاب التي انتهكت، حسب لائحة الاتهام، جميع مواضع جسم الضحية، وصدرت مجلة "تايم" الأميركية وعلى غلافها صورة خنزير، وعبارة "الجنس، الأكاذيب، والعجرفة تجعل الرجال الأقوياء يتصرفون كالخنازير". أطلقت العبارة نانسي غيبس، رئيسة تحرير المجلة التي تصدّرت حملة عالمية نظمت خلالها اجتماعات احتجاجية للنساء أمام المحكمة في نيويورك، وعقدت أكثر من 40 جماعة نسائية في باريس ندوات شاركت فيها أكثر من 600 ناشطة حول أسباب الاغتصاب، واستخدام العنف ضد النساء، واستغلال الرجال نفوذهم لحمل الضحايا على الإذعان والسكوت. وجرت على صعيد فرنسا ودول أوروبية أخرى ما يُسمى "مراجعة الذات" حول موقف المجتمع والرجال خصوصاً من المرأة. حدث كل هذا في غضون ستة أسابيع بعد اعتقال "دومينيك ستراوس كان" المدير العام لـ"صندوق النقد الدولي". وكان وقع القضية شديداً على الفرنسيين الذين شاهدوا تعامل البوليس الأميركي مع "شتراوس" الذي يُعتبر من ألمع شخصياتهم الدولية، كـ"بلطجي"، وأظهرت استطلاعات الرأي أن نحو 60 في المئة من الفرنسيين يعتبرون القضية ملفقة، وكانوا على حق، حيث ظهر أخيراً أن "فايروس فانس"، وكيل النيابة في مانهاتن، لم يتحقق من صحة ادعاءات عاملة التنظيف في الفندق، وتبيّن أنها قدمت شهادات متناقضة، وأن لها سوابق في الكذب، وعلى علاقة بشبكة توزيع مخدرات، وأن في حسابها المصرفي 100 ألف دولار مجهولة المصدر، وأنها أخبرت هاتفياً صديقاً لها قبيل تبليغ البوليس بأنها ستحصل على أموال من الاتهامات. وتحول موقف الادعاء العام من الاتهام إلى الدفاع، ودافع وكيل النيابة باستماتة عن سجل مكتبه، حين أطلق قاضي التحقيق سراح "ستراوس" من دون كفالة، ورفعت عنه قيود الحركة. ويتوقع معظم خبراء القانون تبرئته من التهمة. وبدأت عملية مراجعة الذات بالاتجاه المعاكس، حيث شرع أكاديميون أميركيون بمراجعة ملابسات القضية، وحاولوا تبرير مسارعة وكيل النيابة إلى اعتقال "ستراوس" خشية إفلاته خارج نطاق العدالة الأميركية، ولجأوا في ذلك إلى مبدأ "عاقب أولاً وانظر في الموضوع لاحقاً"، حسب ماكدونال أستاذ الدراسات البوليسية في "كلية القانون الجنائي" بمانهاتن! وعند بحث وضع معقد كهذا، ينصح المحقق البوليسي المشهور شرلوك هولمز باتباع حكمته القديمة القائلة "بعد استبعاد كل ما هو مستحيل، فالباقي مهما بدا بعيداً عن التصديق ينبغي أن يكون هو الحقيقة". وإذا اعتبرنا من قبيل المستحيل ما تردد عن اجتماع مع القذافي كان ستراوس سيعقده خلال رحلته، فالباقي مهما بدا بعيداً عن التصديق قد يكون هو الحقيقة. وأول ما بقي من الحقيقة تسرب تقرير من مكتب رئيس الوزراء الروسي بوتين جاء فيه أن "ستراوس" اعتقل إثر اكتشافه أن سبائك احتياطيات الذهب في الخزانة الأميركية "مفقودة، أو غير مسجلة". وأوضح التقرير الذي أعدته "وكالة الأمن الفيديرالي" الروسية أن "ستراوس" كان قلقاً جداً قبيل اعتقاله من احتمال شروع واشنطن بوقف التزاماتها لـ"صندوق النقد الدولي" بدفع 191 طناً من الذهب لتمويل "حقوق السحب الخاصة" البديلة لاحتياطيات العملة. وقرر "ستراوس" الرحيل إلى باريس، وحذّرته "وكالة الأمن الخارجي" الفرنسية من نية سلطات واشنطن اعتقاله، ونصحته بعدم اصطحاب هاتفه النقال الذي يُمّكن المخابرات الأميركية من تحديد موقعه، وارتكب شتراوس خطأً فتاكاً حين اتصل من هاتف الطائرة بالفندق طالباً إرسال هاتفه إلى منزله في باريس، وسارع بوليس الأمن القومي في نيويورك باعتقاله قبيل مغادرة الطائرة. وذهب ضحية خطأ فتاك آخر المصرفي المصري محمد عبد السلام عمر، وهو صديق مقرب اتصل به "ستراوس" طالباً منه استعادة المعلومات السرية حول سبائك ذهب الخزانة الأميركية، فاعتُقل عمر بتهمة اغتصاب عاملة تنظيف أيضاً في الفندق، رغم عمره البالغ 74 عاماً، والتزامه الشديد بالتعاليم الإسلامية. وذكرت صحيفة "يوروبيان تايمز" التي نشرت التقرير بعد اعتقال "ستراوس" بأسبوعين، أن بوتين أثار الدهشة حين دافع عن "ستراوس" في موقع الكرملين على الإنترنت، واعتبره ضحية مؤامرة أميركية. ويبقى في الفضيحة أمر آخر بعيد عن التصديق يتعلق باحتياطيات العملة الدولية التي كان يتوقع أن يعلن عنها "ستراوس" خلال "قمة الثمانية" في دوفاليه بفرنسا لولا اعتقاله قبل ذلك بعشرة أيام. وذكر الكاتب الفرنسي "ثيري ميسين" أن دول الاقتصادات الجديدة والأوساط المالية تتطلع إلى العملة الجديدة التي رفضها "المجمع الصناعي العسكري الأميركي الإسرائيلي". وكشف "ميسين"، وهو مؤلف كتاب مشهور عن تفجير ناطحتي السحاب في نيويورك عنوانه "9 سبتمبر كذبة كبرى"، أن الصينيين واصلوا ضغوطهم لاستخدام "حقوق السحب الخاصة" كعملة بديلة للدولار. وطرح الرئيس الروسي ميدفيديف على الطاولة في قمة الثمانية السابقة عملة معدنية حقيقية بديلة، وأحيل المشروع للدراسة في "المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة"، وشارك في صياغة نتائجه البروفيسور "بوبوف" أستاذ "كلية الاقتصاد الجديدة" في موسكو. وكان المشروع الذي أوقفه اعتقال "ستراوس" سيضطر واشنطن للكفّ عن تمويل جهازها العسكري العملاق عبر الديون، والشروع في تركيز جهودها على إعادة بناء اقتصادها المحلي. ومن الأمور غير القابلة للتصديق علاقات القربى العائلية بين الرئيس الفرنسي ساركوزي وفايروس فانس، مدعي عام مانهاتن الذي وضع "ستراوس" خلف القضبان. ذكر ذلك الباحث الكندي مايكل شودوفسكي في دراسة عن "تغيير النظام في صندوق النقد الدولي". وهذا يعني أن السياسة العالمية، كرأس المال، لا وطن لها. فالفضيحة وقعت غداة توجه "ستراوس" للإعلان عن ترشيح نفسه لانتخابات الرئاسة القادمة في فرنسا، والمتوقع أن تطيح بساركوزي. والكذب في جميع هذه الأمور غير القابلة للتصديق، كالدكتور واطسن، صديق شرلوك هولمز الذي كان يخاطبه: "يا واطسن العجوز الطيب، أنت النقطة الوحيدة الثابتة في عصر متغير".