خلال الأيام القليلة الماضية، انطلقت حملة الانتخابات الرئاسية الفرنسية التي من المرتقب أن تجرى في مايو 2012. ففي التاسع والعشرين من يونيو الماضي، قام الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي بتعديل حكومي عقب تعيين وزيرة المالية السابقة كريستين لاجارد في منصب مديرة صندوق النقد الدولي - بعد استقالة "دومينيك ستروس كان". غير أن توجيه الدعوة لوزراء من "الوسط" من أجل إضعاف ترشح منافس محتمل لترشحها من قبل "جون لوي بورلو"، وتعيين دافيد دووي، الذي يحظى بشعبية كبيرة، في منصب"كاتب الدولة" المكلف بفرنسيي الخارج، بهدف الحصول على أصوات هذه الكتلة المهمة من الناخبين، يُظهران أن هدف السعي وراء أصوات الناخبين قد يغلب على العقلانية التي ينبغي أن تميز تشكيلة الفريق الحكومي. والأرجح أنه لن يكون ثمة عدد كبير من المرشحين على "اليسار" هذه المرة؛ كما أن كل المؤشرات تدفع إلى الاعتقاد بأن الشخص الذي سيعين من قبل الحزب الاشتراكي سيحتل المرتبة الأولى في الانتخابات. ذلك أن "اليسار" مازال يعيش على وقع الصدمة جراء ما وقع في انتخابات 2002، حين تقدم "جون ماري لو بين"، زعيم "الجبهة الوطنية" اليمينية المتطرفة، على "ليونيل جوسبان"، والسبب في ذلك يعود إلى العدد الكبير لمرشحي "اليسار". ما يدفع للاعتقاد بأنه سيكون ثمة حرص أكبر على "يسار الوسط" بالتصويت على نحو مجد هذه المرة. ويمكن القول إن سيناريو 2002 مقلوب هو الذي يُخشى حدوثه في الانتخابات المقبلة في حال تمكنت مرشحة "اليمين المتطرف"، وهي "مارين لو بين" من التأهل إلى الجولة الثانية على حساب "ساركوزي". غير أنه في الوقت الراهن تتوقع كل استطلاعات الرأي نزالًا كلاسيكياً بين "اليمين" و"اليسار" في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية التي من المرجح أن يفوز بها مرشح "اليسار" في جميع الحالات. وذلك لأن ساركوزي، الذي انتُخب في 2007 بعد وعود في الحملة الانتخابية بتحسين القدرة الشرائية للفرنسيين، وبجمهورية لا مكان فيها للامتيازات وخرق القانون، وبمكافحة فعالة لانعدام الأمن في الحياة اليومية، وبفرنسا تحظى بقدر أكبر من التقدير والاحترام في العالم وتكون رائدة في يخص الدفاع عن حقوق الإنسان، يوجد في وضع صعب نظراً لعدم وفائه بهذه الوعود. ويمكن القول بثقة إنه لو تم إجراء الانتخابات في الأسابيع القليلة المقبلة، فما من شك في أنه سيمنى بهزيمة مؤكدة. وعلى ما يبدو، فإن حتى الإعلان عن الولادة القريبة لطفل في قصر الإيليزيه، والتي تعد سابقة بكل المقاييس، غير كافية من أجل تغيير المزاج العام. غير أن نتيجة الانتخابات في فرنسا، كما في بلدان أخرى، لا تكون مضمونة إلا قبل ثلاثة أو أربعة أشهر قبل موعدها، وليس قبل اثني عشر شهراً. والواقع أن تاريخ فرنسا الحديث حافل بالأمثلة التي تؤكد ذلك. وضمن هذا الإطار، فإنه قبل عام على الانتخابات كان "جيسكار ديستان" واثقاً من الفوز في انتخابات 1981، ولكنه لم يفعل في الأخير. وكذلك الحال بالنسبة لـ"ريموند بار" في انتخابات 1988، و"إدوارد بالادير" في انتخابات 1995، و"ليونيل جوسبان" في انتخابات 2002، و"سيجولين رويال" في انتخابات 2007 ، حيث هُزموا جميعاً. ولذلك، فلا بد من انتظار يناير أو فبراير 2012 من أجل الحصول على رؤية أكثر وضوحاً للنتائج الممكنة. الآن وبعد أن أصبح "دومينيك ستروس كان" خارج حلبة التنافس - وإن كان السؤال حول ما إن كان سيعود إليها في حال تبرئته من التهمة الموجهة إليه في نيويورك قد بدأ يُطرح بكثرة مؤخراً - ينحصر السباق بين "مارتين أوبري" و"فرانسوا هولاند" من أجل تمثيل "اليسار"، حيث سيصبح أحدهما المرشح الأوفر حظاً في هذه الانتخابات. ولكن الرهان الأول سيكون هو معرفة ما إن كان الأمر يتعلق بحرب قاتلة بين إخوة أعداء ستترك آثارها، أم ما إن كان الفائزون والخاسرون سيستطيعون التصالح بعد نهاية السباق ويُظهرون للفرنسيين صورة حزب اشتراكي قوي وموحد وعصي على الانقسام، وذلك خلافاً لانتخابات 2007 عندما فشلت مرشحة الحزب "سيجولين رويال"، التي فازت في الانتخابات التمهيدية، في التصالح مع الخاسرين "لوران فابيس" و"دومينيك ستروس كان"؛ علماً بأن هذين الأخيرين لم يبذلا جهوداً حقيقية من أجل دعمها ومساعدتها. "فرانسوا هولاند" يراهن على صورة "الرئيس العادي"، خلافاً لجوانب "البهرجة" ولقب "صديق المليارديرات"، التي تُنسب إلى نيكولا ساركوزي. أما مارتين أوبري، فتلعب أيضاً ورقة المرشحة الجادة والرزينة، التي لا يحركها طموح شخصي، (إذ يقال إنها تنازلت لدومنيك ستروس كان عن تمثيل الحزب طوعاً)، وتتحمل مسؤولياتها من أجل فوز "اليسار"، ومما يرجح كفتها أيضاً حقيقة أن "أوبري"، التي تشغل منصب عمدة "ليل"، وهي مدينة كبيرة شعبية في شمال فرنسا، تحافظ على تواصل دائم مع الطبقات الشعبية. وخلافاً لـ"فرانسوا هولاند"، فقد سبق لها أن شغلت منصب وزيرة في الحكومة، كما سبق لها أن عملت في إحدى شركات القطاع الخاص. ويدفع طابعها البسيط والمتقشف وخطابها الصريح البعيد عن الديماغوجية المراقبين إلى تقديمها في أحيان كثيرة باعتبارها "أنجيلا ميركل" اليسار الفرنسي. ولذلك، فمن غير المستبعد أن تصبح أول امرأة تصل إلى الإليزيه!