نظم شباب ينتمون إلى التيار السلفي حملة على موقع التواصل الاجتماعي الـ"فيسبوك" لإطلاق مليون لحية في مصر قبل الأول من شهر رمضان الكريم، وهم في سبيل حث الناس على الاستجابة لدعوتهم، ساقوا العديد من النصوص القرآنية والنبوية وآراء المذاهب الفقهية التي ترى وجوب إعفاء اللحية وتحرِّم حلقها. ولا مجال هنا لعرض هذه النصوص ولا للدخول في الخلافات الفقهية حول الحكم الشرعي لحلق اللحية أو إعفائها؛ فالقضية أشبعت بحثاً وهي في النهاية من المسائل الفرعية الخلافية بين الفقهاء المعاصرين، وليست من ثوابت الدين التي لا تحتمل خلافاً. لذلك دعونا نناقش "الدعوة لإطلاق مليون لحية" في سياقها السياسي والاجتماعي في مصر بعد مرور 5 أشهر على انطلاق ثورة 25 يناير التي أطلقت كافة القوى السياسية والاجتماعية، ومنها "التيار السلفي"، من مخابئها، وأتاحت لها فرصة الظهور على السطح... وذلك لمعرفة الدلالات السياسية لهذه الدعوة وموقع التيار السلفي من الخريطة السياسية للمجتمع المصري في الوقت الراهن، وعلاقة هذه الدعوة بخطط الجماعات السلفية لخوض معركة الانتخابات البرلمانية في شهر سبتمبر القادم، والمعركة الرئاسية في نهاية العام. أولاً: إطلاق حملة المليون لحية في هذا الوقت بالذات، يهدف إلى استثمار قرب حلول شهر رمضان المبارك عبر استمالة المشاعر الدينية، وكسب الساحة الشعبية المتدينة بفطرتها، وذلك تمهيداً لمعركة الانتخابات التشريعية بعد رمضان، فإذا حقق التيار السلفي نجاحاً، ولو نسبياً، في حملته، فذلك يشكل قوة سياسية هائلة يحسب الجميع حسابها، سواء على مستوى القيادة والحكم "المجلس القائد والحكومة" أو على مستوى القوى السياسية الأخرى. ثانياً: يهدف التيار السلفي بهذه الحملة إلى البرهنة على انتشار وقبول دعوته السلفية في الأوساط الاجتماعية بإزاء الدعوة الأزهرية الرسمية والدعوة الإخوانية، ومن ثم ترسيخ ثقله الديني والمجتمعي وأحقيته بتمثيل الشارع الديني في المجتمع المصري. ثالثاً: سلفيو الفيسبوك الشباب، يريدون من الدعوة لإطلاق اللحية أسلوباً سلفياً مقبولاً للتعاطي مع العمل السياسي، فإذا حققوا نجاحاً فإنهم سينادون بوجوب النقاب وتحريم زيارة الأضرحة والتبرك بها وتحريم احتفالات المولد النبوي الشريف... إلى آخر قائمة المحرمات السلفية التي ستكون منطلقهم إلى مجال العمل العام. رابعاً: السلفيون عامة يتحاشون العمل السياسي ويتفرغون للعمل الدعوي، لذلك لم يكونوا جزءاً من الحراك السياسي أو الشعبي، ولم يكونوا يخرجون في مظاهرات أو مسيرات احتجاجية، وكانوا ينفرون من تشكيل أحزاب سياسية أو الانضمام إليها باعتبارها أموراً مبتدعة لا أصل لها في الإسلام. كانوا مع النظام القائم، يحرمون الخروج عليه أو التظاهر ضده، بل كانوا لا يسمحون حتى بالمعارضة السياسية أو النقد العلني عبر وسائل الإعلام لأجهزة الحكم. وكانت الفتوى الشهيرة التي تلخص منهجهم السياسي: "أطع ولي الأمر حتى لو جلدك وسلب مالك"، وكانت حجتهم في تحريم المظاهرات، أنها تؤدي إلى شيوع الفتن والإضرار بالمصالح العامة وزلزلة الاستقرار وغياب الأمن وإراقة الدماء... وقد يكونون محقين في بعض ما قالوا، لكن التيار السلفي بعد ثورة 25 يناير خرج من القمقم وانطلق يصول ويجول في المحافظات المصرية، يقيم المظاهرات ويسيّر الاحتجاجات ضد الكنيسة والبابا، ويطالب المجلس العسكري الحاكم بوضع حد لدور الكنيسة والبابا ويتهم النظام السابق بأنه دلّل الأقباط وتغاضى عن تجاوزاتهم، فأصبحت كنائسهم حصوناً عسكرية ودولة داخل دولة. وتهوّر بعض المحسوبين على التيار السلفي وأحرقوا كنيسة وفجروا أخرى و هددوا باقتحام إحدى الكنائس بحجة تحرير "الأسيرة" كاميليا شحادة والتي ادعوا أنها أسلمت فحبسها البابا، كما نظموا مظاهرة احتجاجية أمام السفارة الأميركية للإفراج عن مفتي الجهاد عمر عبدالرحمن. وتسبب بعض غلاة السلفيين في مواجهات طائفية دموية سقط فيها المئات من القتلى والجرحى من المسلمين والمسيحيين، وقام بعض مشايخهم بإصدار فتاوى بتكفير الليبراليين، وقاد بعضهم حملات شرسة على الصوفية ومساجدها والأضرحة وأحرقوا بعضها، كما استولوا على منبر جامع النور في حي العباسية وتحدوا سلطة الدولة، ومنعوا الخطيب الرسمي من إلقاء خُطب الجمع، وتظاهروا ضد المفتي مطالبين بإقالته على خلفية فتواه بمنع النقاب داخل لجان الامتحانات، وقامت المنقبات السلفيات بالتظاهر ضد ما سمينه الحرب على النقاب في تحد لقرار المحكمة. لقد بلغت جرأة بعضهم أن أقاموا الحد على مسيحي وقطعوا أذنه تطبيقاً لإقامة المعروف وإزالة المنكر، لكن هذه افتئات على ولي الأمر الذي من سلطته استخدام القوة لإزالة المنكر ولم يتركه الشرع لآحاد الناس الذين يقتصر واجبهم على الإبلاع. خامساً: التيار السلفي بانشغاله وتركيزه واستفراغ جهده في الخلافات الفقهية، مثل تحريم حلق اللحى، وفرض النقاب، وتحريم الأغاني، وتحريم زيارة الأضرحة، والاحتفال بالمولد النبوي... وغيرها من الأمور الثانوية، إنما يتسبب في نفور أغلبية الناس منه وانصرافهم عنه، وإن حظي بالقبول لدى أقليتهم، وبذلك يخسر سياسياً على المدى البعيد. ومن ناحية أخرى فإن إشغال الناس بالخلافات العقيمة وإثارة معاركَ حولها، إنما يستنزف طاقات المجتمع فيما لا طائل من ورائه، بدلاً من توجيهها في مجالات البناء والتنمية وإقامة المجتمع القوي المنتج لمأكله وملبسه وسلاحه ودوائه، كما يصرف الجهود عن القضايا الرئيسية: الحريات وحقوق الإنسان والعدالة والمساواة وتقدم المجتمع. سادساً: على هؤلاء الشباب أن يدركوا أن إطلاق اللحية أو حلقها وإطالة الثوب أو تقصيره وكشف وجه المرأة أو تنقيبه... لا تقربنا أو تبعدنا من الله تعالى، بل ما وقر في القلب وصدقه العمل وكان له الأثر الإيجابي في المجتمع. لقد كان أولى بالشباب أن يطلقوا حملة لإطعام مليون أسرة فقيرة أو كسوة مليون أسرة عارية أو كفالة مليون طفل والإنفاق على تعليمهم... عليهم أن يدركوا أن 80 مليون مصري لو التحوا جميعاً ولبسوا الجلباب القصير، فلن ينفعهم لا في مستقبلهم وحياتهم ولن يتقدم المجتمع بذلك.