يذكرنا ما تكرره بعض الإذاعات العربية في مواجهة التظاهرات في بلدانها، بكلمات فرعون في مواجهة خروج بني إسرائيل من العبودية: "إنهم شرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون وإنها لجميع حاذرون". وهذا يعني أن جوهر الصراع بين موسى وفرعون يعيد دورته التاريخية، وإن بأشكال مختلفة، وهذا هو المغزى العميق من ذكر موسى في القرآن أكثر من مائة مرة. وعندما يحلل المؤرخ "توينبي" ظاهرة انبثاق الحضارة، يرى أنها "الاستجابة الملائمة للتحدي"، فيقول إن الموت وضع يده الباردة على المجتمع الفرعوني عندما انتقل التحدي من "الطبيعة" إلى "النفس"، فعجزت الحضارة الفرعونية عن مجاراة ذلك التحول، حيث كان المجتمع قد دخل ليل التاريخ، وفقد الطاقة الإبداعية، وتكسر إلى شرائح من المستضعفين والمستكبرين. وكانت مهمة موسى محصورة في خطة ثلاثية المراحل: الخروج بجيل "الخوف" من مصر، ثم دفن جيل "التيه" في الصحراء، وأخيراً خروج جيل "الحرية" إلى العصر الجديد. ولا توجد قصة مشروحة بتفصيل، مع رسم كل المشاعر الدقيقة وخلجات النفوس والتعبيرات، كما هي قصة مواجهة موسى لأعظم حضارة على ظهر الأرض يومها، لكنها كانت قد أصبحت حضارة شائخة، إذ ارتفعت فيها الأصنام والهياكل ومات فيها الإنسان. وبينما كانت ترفع الأهرامات كمدافن لأشخاص زائلين، كانت عظام أمم كاملة تطحن في مقابر جماعية. إن بني إسرائيل نجحوا في عبور البحر تحت مظلة المعجزة، لكن لم يكن من أمل في جيل تركت السياط في ظهره أنفاقاً. وعند المرور على قوم يعكفون على أصنام لهم، قفزت مجموعة لتقترح على موسى أن يجعل لهم "إلهاً كما لهم آلهة". وعندما رجع بالألواح ليرسي التشريع في المجتمع، كان القوم يعبدون عجلاً جسداً له خوار. وفي النهاية، وأمام تحدي دخول الأرض المقدسة، دعا موسى ربه أن يفرق بينه وبين القوم الفاسقين، إلى أن يخرج جيل جديد يعشق الحرية. ومن ذلك يستنبط ابن خلدون دورة الأجيال. إن مرض "بني إسرائيل" كان "ثقافياً" وليس جينياً (وراثياً)، وما من أمة محصنة ضد الإصابة به. والأمر شديد الدلالة في قصة بني إسرائيل هو الوحي والمعجزة والقيادة المبدعة، أي العناصر الثلاثة التي يفتقدها المجتمع العربي حالياً، والتي يمكن أن تشكل مخرجاً من هذا الاستعصاء التاريخي. إننا نتمتع بميزة فريدة، فبينما عمل الأنبياء السابقون من داخل قانون المعجزة، عمل نبينا صلى الله عليه وسلم على سنن تغيير المجتمع داخلياً، فلم يدمر مجتمع قريش بالطوفان أو الزلزال أو الجراد والقمل والضفادع والدم، بل بالمراهنة على أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله. وقد تحقق التحول في نصف جيل. لكن ميزان الزمن انقلب اليوم، فعوضاً عن خروج بني إسرائيل من الأرض الظالمة، يتم اختراق حزام دول التيه والخوف من كل مكان؛ بالإنترنت، والمحطات الفضائية، والكلمات المنقوشة في الهواء على ثبج البحر الأخضر الإلكتروني. إن التحول هنا، كما يقول "توفلر"، يحد دون نقلة جغرافية. والمراهنة هي على ارتفاع مستوى الوعي عند جيل "التيه" كي يزول الخوف. ويروي مالك بن نبي عن جيلين من الصينيين اجتمع بهما في باريس، أن الأول كان يلتفت حوله وحينما ينطق يرتعش من الخوف، والثاني كان يتحدث بقوة ويعبر بصراحة؛ فالفرد عينة من المجتمع مثل عينة الدم من الجسم، قد تكون سليمة وقد تكون مصابة.