بعد عقدين من الحرب، وسنوات من المفاوضات المنهكة، واندلاع لأعمال عنف في اللحظة الأخيرة، من المنتظر أن تولد دولة جنوب السودان الجديدة هذا الأسبوع؛ حيث سيصبح نحو 8 ملايين أفريقي، يدين العديد منهم بالمسيحية، في كيان سياسي مستقل عن الشمال. ولا بد من الاعتراف هنا بأن الفضل في هذا النجاح المهم يعود في جزء كبير منه إلى جهود إدارة أوباما التي أظهرت ما يمكن تحقيقه عندما يتم تسخير القوة والنفوذ الأميركيين بشكل كامل تحت توجيه من الرئيس. ففي السودان، وخلافاً لأي مكان آخر في الشرق الأوسط، اختار أوباما قيادة تلك الجهود شخصياً. ذلك أنه اعتباراً من الصيف الماضي، عندما أدرك مسؤولون أميركيون أن اتفاق السلام الهش الذي وقع في 2005 بين الشمال والجنوب بات يواجه خطر الانهيار، اتبع أوباما وكبار مساعديه حملة منسقة ومنسجمة وذكية لصيانة خطوة الشمال المتوقعة منذ وقت طويل نحو الاستقلال. فقام أوباما بتعيين مبعوثين خاصين، وليس مبعوثاً واحداً فقط، للقيام برحلات مكوكية بين حكومة البشير في الخرطوم، والإدارة الجنوبية، والمتمردين في إقليم دارفور، والأطراف العديدة المعنية الأخرى؛ كما حضر اجتماعاً خاصاً حول السودان في الأمم المتحدة، وبذلك جذب العديد من زعماء العالم الآخرين، وألقى فيه خطاباً قوياً. وإضافة إلى ذلك، قام أوباما بإرسال رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ جون كيري ( وهو سيناتور ديمقراطي عن ولاية ماساتشوسيتس) لشرح "خريطة طريق" مفصلة لنظام البشير مؤداها أنها إذا سمحت للجنوب بالانفصال بشكل سلمي، فإنها يمكن أن تستفيد من إعفاء من العقوبات وتخفيف الديون واعتراف دبلوماسي من الولايات المتحدة. وكانت النتيجة استفتاء ناجحاً حول الاستقلال في الجنوب في يناير الماضي، الأمر الذي سيؤدي إلى إعلان البلاد استقلالها هذا السبت المقبل. ولكن جنوب السودان سيصبح مباشرة بعد ذلك أحد أقل البلدان نمواً في العالم - وإن كان يتوفر على احتياطيات مهمة من النفط - حيث لا يمتلك سوى بضعة أميال فقط من الطرق المعبدة، وجزء كبير من سكانه يعاني من الأمية. وإذا كانت لحكومته فرصة للنجاح، فإن ذلك سيكون في جزء كبير منه بفضل حوالي 300 مليون دولار من المساعدات الأميركية التي خُصصت لإنشاء البنية التحتية الأساسية للحكومة. بالطبع، مازالت ثمة مشاكل كبيرة - وفي مقدمتها الهجمات العسكرية التي أطلقها الشمال الشهر الماضي في منطقة "أبييه" المتنازع عليها وجبال نوبة في ولاية جنوب كردفان، وهي منطقة شمالية يتحصن فيها متمردون متحالفون مع الجنوب. ولكن هنا أيضاً قامت إدارة أوباما بالرد على هذه التطورات على نحو شرس، حيث دعمت اتفاقاً في أبيي وافق بموجبه الشمال على سحب قواته والسماح للاجئين بالعودة؛ كما كتبت القرار الذي مرره مجلس الأمن الدولي ورخص لنشر 4 آلاف جندي من قوات حفظ السلام من إثيوبيا. وخلال عطلة نهاية الأسبوع، توجه المبعوث الخاص "برينستون ليمان" إلى أديس أبابا بهدف الانضمام إلى المحادثات حول وقف إطلاق النار في جنوب كردفان. كما يحاول أيضاً رعاية اتفاقات بين "الشمال" و"الجنوب" حول مواضيع أساسية أخرى مثل رسم الحدود وتقاسم عائدات النفط. وفي هذا السياق، قال "لي ليمان" الأسبوع الماضي قبل أن يتوجه إلى المنطقة: "لقد كان الرئيس منخرطاً في هذا الموضوع إلى حد كبير، وكذلك الحال بالنسبة لوزيرة الخارجية"، مضيفاً "إن الحصول على انخراط من ذلك النوع وعلى هذا المستوى العالي كان مهماً جداً". وبالطبع، فقد لعب آخرون دوراً مهماً في السودان، مثل الاتحاد الأفريقي؛ بل إن حتى الصين، التي تعد أكبر مستهلك للنفط السوداني والتي لطالما وفرت الحماية للبشير، يبدو أنها بدأت تتصرف على نحو بناء. غير أن الزعامة الأميركية كانت بالغة الأهمية. والأهم هو أن شمال السودان يتوق إلى التخلص من العقوبات وجذب الاستثمارات من الغرب. وفي هذا السياق، يقول "ليمان”: "إن ثمة قدراً كبيراً من التشكك في الخرطوم حيث يعتقد أن الولايات المتحدة ليست جادة في الواقع بشأن تطبيع العلاقات". لكن "خريطة الطريق" التي وضعتها الإدارة شكلت حافزاً قوياً للبشير الذي زار الجنوب في يناير الماضي للإعلان عن أنه سيقبل الاستقلال. غير أن كل هذا يثير سؤالًا مهماً هو: لماذا لا يقوم أوباما بتطبيق مقاربته في السودان على سوريا أو ليبيا أو دول عربية أخرى يقاتل فيها الناس من أجل الحرية - وينظرون شطر الولايات المتحدة بحثاً عن الدعم؟ ولماذا يتم تزعم جهود ضد ديكتاتورية البشير، والإصرار بالمقابل على أخذ مقعد خلفي في المعركة ضد القذافي و الأسد؟ الواقع أنه على الرغم من أن الإدارة تنظر إلى الربيع العربي، وعن حق، باعتباره فرصة كبيرة، فإن أوباما لم يعين مبعوثين خاصين، ولم يُعد أي خارطة طريق، ولم يشارك في أي اجتماع قمة. جزء من التفسير يمكن أن يكون داخلياً ويتعلق بالسياسية الأميركية الداخلية: ذلك أن قضية جنوب السودان (ودارفور) تعبئ مجموعات الضغط الليبرالية ونجوم هوليود، ناهيك عن مسؤولين بارزين في الإدارة الحالية مثل سوزان رايس، السفيرة الأميركية إلى الأمم المتحدة. وبالمقابل، يمكن القول إن الديمقراطية في العالم العربي قد أُسقطت عموماً من حسابات فريق أوباما باعتبارها من أضغاث أحلام بوش الابن. لكن السياسة الأميركية تجاه السودان، كانت تتميز بالحذر والارتباك إلى حدود الصيف الماضي عندما قرر أوباما أن يتولى شخصياً هذا الملف، ويتزعم الجهود الرامية لحل الأزمة. وربما لم يفت الأوان بعد كي يُظهر الرئيس الأميركي كيف أن الجهود الدبلوماسية المنسقة تستطيع أن تُحدث فرقاً في أماكن أخرى من الشرق الأوسط العربي. جاكسون ديل محلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس"