في محاولاته اليائسة للبقاء مهما كلف الأمر، يبدو أن النظام السوري مصمم على تأزيم موقفه بنفسه، رغم أن الأمر لم يكن ليجري بالضرورة على ما هو عليه، فالحركة الاحتجاجية وإنْ كانت قوية وتزداد زخماً، إلا أنها لم تصل بعد إلى الحجم الجماهيري الحاسم، هذا بالإضافة إلى تخوف العديد من السوريين من الفوضى وتشظي البلاد. لكن مع ذلك يستمر النظام في التصرف كما لو أنه عدو نفسه منفصلًا عن دعائم التأييد الأساسية التي يقوم عليها، والمتمثلة في قاعدته الاجتماعية بين أوساط الفقراء والأغلبية الصامتة، وربما حتى قوات الأمن التي تقف إلى جنبه، فالسلطات السورية تقول إنها تحارب العصابات الإجرامية والتمرد الإسلامي، فضلاً عن تصديها للمؤامرة الخارجية. والحقيقة أن هناك بعض الحقيقية في هذه الادعاءات، إذ لا يمكن إنكار وجود عصابات إجرامية كما أن الانتفاضة الشعبية تصطبغ بلون إسلامي واضح، بيد أن تلك الحركات ليست من صنيعة أعداء النظام كما يقول، بل هي نتيجة عقود طويلة من سوء الإدارة الاقتصادية والاجتماعية. ولعل ما يدل على ذلك أن أغلب المواجهات العنيفة حصلت في المناطق الحدودية التي تزدهر فيها شبكات التهريب بمعرفة وبتواطؤ من قوات الأمن، فيما صعود الأصولية الدينية تعكس في الواقع إهمال الدولة التدريجي لواجباتها في المناطق التي اعتنقت تاريخياً حزب "البعث" وتعد معقله التقليدي، لذا يبدو أن النظام خلال الأحداث الأخيرة يشن حرباً ضد أصوله الاجتماعية والطبقة التي جاء منها، فعندما صعد حافظ الأسد إلى السلطة كان يسيطر على نظامه أفراد الطائفة العلوية المنحدرة من المناطق الريفية. لكن اليوم نسيت الطبقة الحاكمة، بما هي امتداد للطبقة التي اعتمد عليها الأسد الأب، جذورها الاجتماعية، فأفرادها ورثوا السلطة، ولم يحاربوا من أجلها، ونشؤوا في دمشق متشبهين بأساليب الطبقة العليا الحضرية التي اختلطوا بها، فضلاً عن قيادتهم لحركة التحرير الاقتصادي على حساب المحافظات البعيدة. ومع أن بعض المحتجين لجؤوا إلى العنف وبعض الممارسات الطائفية، إلا أنه بالنظر إلى عنف أجهزة الأمن وتجاوزاتها الكثيرة من اعتقالات عشوائية وتعذيب وحالات العقاب الجماعي التي نقلتها وسائل الإعلام مراراً، فإن ما يلفت الانتباه فعلاً هو ردة الفعل المنضبطة لأغلبية الجماهير السورية، وتؤكد ذلك أشرطة الفيديو التي التقطها الشباب المحتجون على سبيل المزاح والتندر تظهرهم يحملون قنابل من الباذنجان وقاذفات القنابل عبارة عن خيار، وقد رأينا كيف أن النظام السوري يعتمد في ضمان استمراره ونجاحه في صد الاحتجاجات على "الأغلبية الصامتة" المؤلفة أساساً من الأقليات العلوية والمسيحية المتخوفة من احتمال تولي الإسلاميين الحكم، بالإضافة إلى الطبقة الوسطى، وقطاع الأعمال الذي جمع ثروته من خلال تقربه من النظام، بحيث يبدو الجميع متفقاً على أنه لن يكسب شيئاً من صعود طبقة مهمشة قادمة من المحافظات، زد على ذلك ما يشاهدون في العراق ولبنان عندما تندلع الحرب الأهلية في بلد متعدد الطوائف ومجتمع منقسم على نفسه. لكن كلما طال أمد الاحتجاجات وتواصلت الاضطرابات قلت فرص النظام في فرض الأمن وطمأنة تلك الأغلبية الصامتة على مستقبلها. فجميع تعهداته بالسيطرة على الأمور تناقضها تصرفاته في الميدان، وهي تعهدات تجمع بين وعود الإصلاح غير المتحقق لحد الآن والقمع المتواصل. وفي رأي العديد من المراقبين، تكمن نقطة قوة النظام الأساسية في الأجهزة الأمنية التي يعتمد عليها، والأمر هنا لا يتعلق بالجيش النظامي الذي تعرض للتهميش طيلة الفترة السابقة، بل بوحدات الحرس الجمهوري والشرطة السرية المعروفة باسم المخابرات، وهي الأجهزة التي تتشكل أساساً من العلويين، ويبدو أن النظام يصدق هذه المقولة ويستند فعلا إلى الأمن لاحتواء الحركة الاحتجاجية، لكن المقاربة الأمنية قد تؤدي إلى الهزيمة وتقويض النظام الذي لم تنفعه أجهزة الأمن لحد الساعة في وقف موجهة المظاهرات، وحتى العنف الممارس من قبل الأجهزة بدعوى محاربة الجماعات المسلحة يفتقد لهدف ورؤية واضحتين، ذلك أن مواجهة الحركات الإسلامية المسلحة قد تطول دون أن تتوقف، الأكثر من ذلك أن توجيه هذا العنف ضد المواطن العادي الذي يخرج للمطالبة بالحرية يصعب تبريره، لذا يحاول النظام اللعب على الورقة الطائفية وإيقاظ الغرائز المذهبية، منطلقاً من فكرة أن العلويين في الأجهزة الأمنية مهما كانت رواتبهم ضعيفة سيحاربون حتى النهاية، لكن من غير الممكن أن تظل أغلبية الجيش صامتة في حالة الاستقطاب الطائفي، كما أن المشاعر الطائفية التي يؤججها النظام لدى قواته قد تأتي بنتائج عكسية، فبعد قرون من الاضطهاد والتمييز من قبل الأغلبية السنية ينظر العلويون إلى قراهم المعزولة نسبياً في المناطق الجبلية باعتبارها الملاذ الأخير، وليس غريباً أن يرسل أغلب الضباط العلويين عائلاتهم إلى القرى العلوية في أقاصي الجبال، إذ من غير المرجح أن يأمنوا على سلامتهم في العاصمة، أو الوثوق بحماية مؤسسات الدولة، وهم عندما سيشعرون بقرب النهاية لن يحارب العلويون إلى آخر رجل في دمشق كما يأمل النظام، بل سيذهبون إلى ديارهم. والمشكلة أن استمرار تأييد النظام من قبل المواطنين المتوجسين من مستقبل غير مضمون وأجهزة الأمن الخائفة من سقوط النظام، قد يشجع هذا الأخير على السير في نفس الطريق التي سلكها لحد الآن والمتمثلة في تقديم وعود بالإصلاح غير جدية واستخدام العنف المفرط لقمع الاحتجاجات ليقربه ذلك أكثر من نهايته المحتومة. فإذا كان من الصعب، حتى بعد مرور كل هذا الوقت، الجزم بأن كثيراً من السوريين يريدون تغيير النظام، فمن الواضح أن الأغلبية داخل النظام تعمل من خلال سياستها الحالية على تعجيل خروجه من الساحة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بيتر هارلينج مدير مجموعة الأزمات الدولية في العراق وسوريا ولبنان ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ روبرت مالي مدير برنامج المجموعة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس"