تحددت مواقف كثيرة بالنسبة للمشكلة الليبية قبل انعقاد القمة الأفريقية في مالابو (غينيا الاستوائية)؛ ورغم عزوف عدد كبير من الرؤساء الأفارقة عن الحضور لضعف وزن الجزيرة السياسي رغم أهميتها البترولية والاستراتيجية، فإن الرؤساء المؤثرين لم يغيبوا (نيجيريا- جنوب أفريقيا- إثيوبيا- مصر...) وهذا ما أعطى الاجتماع في هذه الفترة الحرجة من التاريخ الأفريقي أهمية كبيرة. حتى ممثلي المجتمع المدني الأفريقي الذين اجتمعوا قبل القمة وركزوا ضغطهم على مسائل الشباب والاعتراف بأحكام المحكمة الجنائية الدولية، كان لهم حضور ملحوظ على سطح هذا الحدث المهم. والملاحظ هنا أن الأفارقة هم الذين يعيشون المأزق الليبي، بأكثر مما يعيره العرب الاهتمام المناسب بسبب انشغالهم في أكثر من موقع مشرقي ومغربي بتطورات كارثية مماثلة، أضف إلى ذلك أن جامعتهم العربية لا تملك قولًا في مثل هذه الأمور على النحو الذي تتمتع به مفوضية الاتحاد الأفريقي، أو أنهما الأمران معاً فضلاً عن انشغال أمانة الجامعة بعملية الانتقال في قيادة الأمانة. كان الموقف في الاتحاد الأفريقي محدداً منذ مدة تجاه الأزمة الليبية، أي منذ قرر الاتحاد في مبادرة مسؤولة أن يذهب وفد منه بقيادة رئيس جنوب أفريقيا إلى "الأطراف المتنازعة" بخريطة طريق تبدأ بوقف الاقتتال (وقف إطلاق النار) ثم التدرج فيما يشبه المصالحة الوطنية. لكن التشدد المبكر لـ"الأطراف"، حتى قبل أن تتضح معالم قوتها، كان أمراً ملفتاً ومعوقاً لأي تقدم في الاستجابة "لمطامح الشعب الليبي" وحفظ ماء وجه القيادة" في نفس الوقت. ومن ثم انعقد لقاء القمة الأفريقية، وسط أجواء مشحونة بالانفعال، إزاء "معمر القذافي" الذي كان يستفز بعضهم من أجل "وحدة أفريقيا" تحت قيادته (جنوب أفريقيا- نيجيريا مثلاً) أو الذي مازال موقفه محرجاً ممن لا يتمنون أن يكونوا في مثل موقفه؛ فبدوا كالمدافعين عنه الآن (أوغندا) أو ممن يتعاطفون مع "القذافي" من دول الجوار المستفيدة من الاستثمارات الليبية بالطبع؛ ولا ننسى هنا عنصر الضغط الخارجي المباشر على عدد من الدول الأفريقية إزاء تعدد أطراف الحلف المهاجم لطرابلس الآن. لذلك بدا لي المشهد محملاً بانقسام أفريقي لا تشهده ساحات أخرى، خاصة وقد بدا الانفعال العام ضد "التدخل المباشر، والمسلح" لأسباب لا ترجع إلى "جرائم حرب حقيقية أو ضد الإنسانية"، كما تنص لوائح الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة، ولكنه بأخذ شكل التدخل في صراع داخلي لا يستوجب دخول حلف دولي مثل "الناتو" بأسلحة دمار شامل، لا تجدي معها المصالحات المطروحة. كان التصور على المستوى الأفريقي دائماً، كما لاحظتها أثناء زيارة سابقة لأديس أبابا- أن ثمة وفاقاً ممكناً في طرابلس إذا جاءت خطة الطريق من قبل الاتحاد متوازنة في التأثير على الطرفين، وإذا تعاون الاتحاد الأفريقي في ذلك مع المجموعة العربية، وبعض الدوائر الدولية، بل وهناك من قال إنه خلال ذلك قد تحسم الحركة الشعبية الأمر بشكل سياسىي مناسب على نحو ما جرى في مصر أو تونس. ولأن معظم هذه الافتراضات لم تحدث، فإن الشكوك تزايدت بسرعة عند المغرضين ممن سارعوا بالانقضاض على الموقف، ليتم إخراجه على هذا النحو، فيرهب الشعوب ويحقق أعلى المصالح في الوقت نفسه. إذن فالقمة الأفريقية مازالت تتعثر بدورها تحت حصار المسألة الليبية؛ ولم يتحرك الاجتماع كثيراً عن خريطة الطريق الأصلية إلا أن يطلب من القذافي عدم المشاركة في المفاوضات شخصياً. لكن هناك أيضاً التلويح بموقف أفريقي على نحو ما تم عند مقاطعة ليبيا بسبب لوكيربي، فكسرت أفريقيا حصاره. وقد يعقد هذا "الانحراف" الأفريقي" ما يسمعونه عن إمدادات السلاح للمعارضة، والاعترافات الرسمية على أعلى مستوى دولي بالمجلس الانتقالي المعارض لإجبار القذافي على التسليم، بينما الكل يعرف إمكانياته في تعبئة مصادر دولية أخرى إلى جانبه، وعدم استعداد تكوينه الشخصي للتسليم إلا بأفدح الخسائر! لم تقتصر القضايا المهمة في القمة الأفريقية بالتأكيد على المسألة الليبية، فقد كان هناك الحضور المصري الجديد بمشاركة رئيس وزراء جاء من "ميدان التحرير" ليعلن بعد زيارته من قبل لإثيوبيا وأوغندا وجنوب أفريقيا وجنوب السودان أن مصر عازمة على العودة للساحة الأفريقية بحجمها الطبيعي كلما أمكن ذلك. ولعل تصريح د. عصام شرف في "مالابو" عاصمة غينيا الإستوائية، وأمام القمة الأفريقية أن موضوع وحدة ليبيا خط أحمر، عله يجد الترحيب المناسب على المستوى الأفريقي- كما هو على المستوى العربي- لأن هذه المسألة تبدو عقده الموقف الآن في التطور الليبي بالنسبة للعالم الخارجي، بأكثر مما يبدو الإشفاق على "التحرر الشعبي من النظام الليبي". ولا يقل عن ذلك بالطبع حديث "عصام شرف" عن شراكة مصر في عمليات التنمية، وإشاراته لإمكان حضور مصر أيضاً في قضايا جنوب السودان والصومال، ولو بمشروعات التنمية المشتركة مع أطراف عربية مما يدفع بهذا المجال- العربي الأفريقي- إلى الساحة بدوره. مرتبطاً بحضور مصر. القلق الأفريقي على الموقف في ليبيا له جذور حقيقية أكثر منها سياسية، بسبب المعاملات الليبية الكبيرة مع كافة النظم طوال السنوات الأخيرة، ولذا يصبح التفكير العربي- الأفريقي المشترك والجماعي في مواجهة هذا الوضع مسؤولية عربية كبيرة. هناك أيضا إشارات الإعلاميين والكتاب الأفارقة في تحليلهم لثورات الشباب العربي بشمال القارة إلى مزيد من الإحساس الأفريقي بالحضور العربي في القارة، مما لابد أن يلتفت إليه المثقف والمسؤول العربي على السواء. ولا أعتقد أن ذلك كان غائباً عمن وضعوا برنامج القمة الأفريقية في "مالابو" تحت شعار "تمكين الشباب من التنمية المستدامة"، بإحساس اعتقد أنه ناتج عن دور الشباب في ثورات الشمال الأفريقي العربي. لكن التحسن في موقف الشمال العربي، لم يكن دافعاً بشكل دائم إلى تحسن إيجابي في الموقف الأفريقي، بل إن بعض الكتابات الأفريقية تلمح إلى أن مسارعة دول حوض النيل بتوقيع الاتفاق الإطاري لضمان السيطرة على مياه النيل إنما كان استغلالاً لفرصة انشغال دول وشعوب الشمال في تطوراتها الخاصة، وليس مجرد تنسيقاً إقليمياً لمشروعات التنمية في دول الحوض. المشكلة أن دول الشمال الأفريقي العربي لا تملك خططاً تكاملية مماثلة تجعلها تحمي مصالحها بشكل متبادل على نحو ما تفعل بعض المناطق الأفريقية (جنوب أفريقيا في منظمة "سادك" مثلا) وإنما تغرق الدول العربية دائما في مشاكل ذاتية تدفع إلى المنافسة أو التصارع وتعطيل المصالح أكثر من أي شيء آخر. وإذا انتقلنا خطوة أخرى في وضع القضايا العربية إزاء الساحة الأفريقية، فسوف نجد أن الاختراق الأفريقي للقضايا العربية أكثر تأثيراً فيها بل وتنسيقاً، ولننظر إلى ما يجري في السودان؛ بالنسبة لمسألة الجنوب أو دارفور. وكان آخر مستجدات هذه المسألة تكليف مجلس الأمن الدولي لإثيوبيا بالتواجد العسكري في منطقة منزوعة السلاح بين شمال السودان وجنوبه.. أي في "أبيي"، بل واستضافت أديس أبابا وفدي الحزب الحاكم في الخرطوم، وجوبا، للاتفاق على ترتيبات تتعلق بما بعد الانفصال؛ كما رعت أوغندا اتفاق الأطراف الصومالية على مد الفترة الانتقالية للحكومة القائمة لمدة عام آخر. ولابد أن يتصور المراقب العربي أجواء القمة الأفريقية في "مالابو" بفارق شعور المسؤول الأفريقي الذي حقق هذه "الضربات" في الأشهر الأخيرة وبين ما يحيط المسؤول العربي وهو المحاصر بأحكام جنائية دولية على "أشقائه" في السودان وليبيا. بينما الفضاء الأفريقي أيضاً هو الذي تعالج في رحابه قضايا "الصحراء" المغاربية وقضايا موريتانيا الأمنية، ومشروعات الجزائر الاقتصادية مع نيجيريا.. الباحث العربي يجد نفسه دائما ًمحاصراً في المقارنة بين الموقف العربي والأفريقي، بينما هو راغب في أن يقول إن جزءاً كبيراً من جغرافية وسكان الوطن العربي أفريقية، ولا يجوز أن نظل في هذا الحصار طويلاً، لأن التكامل الإقليمي، هو أقل ما يمكن أن يتفاعل داخله العرب والأفارقة في عصر العولمة.