أنهى اتفاق الطائف سنة 1989 الحرب الأهلية اللبنانية، ومنذ ذلك الوقت ونحن نقول سرّاً وجهراً، إن الحوار هو السبيل لتأسيس مرحلة لبنانية جديدة، لأن الحوار من شأنه أن يكمل ما أنجزه الطائف من إعلان قانوني وتطبيقي لنهاية الحرب، بالتأسيس المشترك للسلام الأهلي والاستقرار. وقد اعتبرنا كذلك أن التنازل المتبادل، والصلح بمعناه الحقوقي، هما ما يحفظ النصاب الأعظم من حقوق الجميع، وأن أي منعطف في تاريخ بناء وتجديد أي كيان أو دولة، لا يمكن إنجازه على يد حزب واحد أو فئة واحدة أو أهل دين أو مذهب واحد، بل لابد من كتلة تاريخية يلتقي في فضائها المد الوطني الرحب، وتضم أفراداً وفئات متعددة المناشئ والمشارب والخبرات والتجارب والحساسيات، تجتمع على مشروع واحد مفتوح على التغيير، منفتح على النقد، يزداد حيوية بالتعدد ويصون التعدد بالحفاظ على المستوى اللازم من الوحدة، ويعزز الوحدة بائتلاف المختلف. لقد عقدنا نحن رجال الدين من مختلف الطوائف اللبنانية ومن الأساتذة الجامعيين ورجال السياسة منذ عام 1990 عدداً كبيراً من المؤتمرات الفكرية حول الحوار وأهميته، وأنتجنا ميثاق عيش مشترك قائم على الاحترام المتبادل، وأهمية الحضور المسيحي في المشرق. على أمل أن نستطيع بالحوار ترسيخ وتعميم القناعة بالدولة المدنية التي تحفظ الدين والمدينة، منطلقين من قناعة راسخة بأن الدولة الحقيقية والجامعة هي دولة الأفراد لأنهم مواطنون يصلون إلى إنشاء الدولة ويقيمون مؤسساتها بالاختيار الفردي الحر من دون حاجة إلى القناة الطائفية، مع الاحترام الشديد للطوائف كمتّحدات اجتماعية. لقد انتزعنا من نفوسنا كل الأدران والذهنيات السامة التي تنتج البغض الطائفي والشقاق الديني والشتات الوطني، وعشنا وما زلنا حالة من الفرح الداخلي بالخلاص، نستحق الغبطة عليها أو حتى الغيرة ممن لم يعرفوا هذه النعمة. وكنا في كل ذلك نراهن على أن الأساس والضمان هو إعادة بناء الدولة التي تكرس العيش المشترك. ليس لي شخصيّاً وأمثالي من شغل إلا التشجيع على الحوار، فنحن نتحاور فيما بيننا وننقل ثقافة الحوار إلى الشباب. ونعمل مع الشباب من خلال المخيمات الشبابية التي نظمناها في مؤسسة "الفريق العربي للحوار" وأدرنا حواراتها حول العلاقات بين مختلف الأديان لتفكيك وتجاوز الصور النمطية عن الآخر بهدف منع نشوب حروب أهلية جديدة، وسعياً لتحقيق مصالحة بين مختلف الجماعات الدينية التي تشن الحروب باسمها وتكون على حسابها في النهاية. إنه لا سبيل إلى حفظ ذواتنا وأهلنا وأحفادنا وأدياننا، وكل شيء ذي قيمة في هذه الحياة، إلا بالحوار، وصمودنا عليه شفاء لنا ووقاية من وباء الاحتقان المذهبي والطائفي الذي يفتك، إذا تفشى، بالأديان والأوطان والمواطنين، كل المواطنين. وإذا نزل الاختلاف إلى مستوى الخلاف وأصبح الصراع والاقتتال أمراً محتملاً، فإن الحوار يصبح أوجب ويصبح علامة شرف وطني لمن يصرّ عليه، لأنه لا مجال لتحقيق ذواتنا الفردية والجماعية، إنسانيّاً ووطنيّاً إلا بالحوار. وقد يتقوقع الواحد منا على ذاته من دون عيش مشترك مع الآخر، ولكنها عيشة ناقصة وبائسة وعقيمة لأن الآخر شرط الوجود وشرط الحياة وشرط المعرفة وشرط الدنيا والآخرة. سنبقى زملائي وأنا في خدمة صحة الوطن والمواطن في لبنان، ساهرين عليه حتى تسود ثقافة المواطنة والتسامح والتعايش. وكلما انتشر وباء الاحتقان الطائفي أكثر كلما أحسسنا بأننا مطالبون بجهد أكبر لتكريس تلك الثقافة والقيم الراقية المتعلقة بها. هاني فحص عضو المجلس الشيعي الإسلامي الأعلى - بيروت ينشر بترتيب مع خدمة "كومون جراوند"