"لقد أجاد الصندوق في خدمة بلدانه الأعضاء خلال الأزمة الاقتصادية المالية العالمية، وأجرى تحولاً ذاتياً إيجابياً من عدة أوجه، وسوف يكون هدفي الأسمى أن تواصل مؤسستنا خدمة جميع أعضائها بنفس التركيز وذات الروح". هذا ما قالته الفرنسية كريستين لاجارد عقب اختيارها مديراً عاماً لصندوق النقد الدولي. فقد تغلبت على منافسها المكسيكي، وأعلن مجلس إدارة الصندوق فوزها بالمنصب، بعد اجتماع في مقره بواشنطن يوم الثلاثاء الماضي لتحديد من سيخلف "دومينيك ستراوس كان" الذي استقال من رئاسة المؤسسة عقب اتهامه في فضيحة جنسية الشهر الماضي. وبذلك تكون لاجارد أول امرأة تتولى رئاسة الصندوق منذ إنشائه، وستتسلمها يوم غد الثلاثاء بعد أربعة أعوام قضتها وزيرة للاقتصاد والصناعة والمالية في فرنسا. فهي سياسية ومحامية وسيدة أعمال، ولدت في باريس عام 1956، وتلقت تعليمها في "ليسيه كلود مونيت"، ثم درست في الولايات المتحدة قبل أن تعود لتنال شهادات عليا في القانون الاجتماعي وقانون الأعمال من جامعة باريس والمدرسة الوطنية للإدارة. بعدئذ انضمت لاجارد للفرع الفرنسي من مكتب المحاماة الشهيرBaker & McKenzie، وترقت فيه خلال ربع قرن من محامية بسيطة عام 1987، فمساهماً ضامناً عام 1991، ثم عضواً بلجنته التنفيذية عام 1995، وصولا (عام 1999) إلى رئاسة المكتب الذي يعد الأكبر من نوعه في العالم ويضم 4600 موظف في 35 بلداً. وقد استطاعت أن ترفع رقم أعماله بنسبة 50 في المئة ليصل في عام 2004 إلى 1.228 مليار دولار. وعلمت لاجارد بين عامي 1995 و2002 عضواً بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، وكانت إلى جانب المفكر الاستراتيجي الأميركي بريجنسكي في لجنة مختصة بالتفكير حول استراتيجية تحول بولندا نحو اقتصاد السوق، ثم التحقت عام 2005 بمجلس إدارة مجموعة ing البنكية الهولندية التي تعد ثاني أكبر مجموعة عالمية متخصصة في مجال التأمين والبورصة والأعمال. لكن لاجارد لم تبق في هذا المنصب سوى بضعة أشهر، حيث استدعيت إلى فرنسا لتصبح وزيرة منتدبة للتجارة الخارجية في حكومة دوفيلبان في يونيو 2005. وفي مايو 2007 أصبحت وزيرة للزراعة والصيد في حكومة فرانسوا فيون الأولى، ثم بعد شهر واحد عينت وزيرة للاقتصاد والمالية والتشغيل، وأصبحت أول امرأة في الدول الثماني الكبرى تشغل ذلك المنصب. وقد أدخلت لاجارد تعديلات هيكلية في وزارتها، ودفعت بمشاريع قوانين جديدة حول الوظيفة العمومية والإدارة ونظام التقاعد. وحظي أداؤها بتقدير عام، ورشحتها الصحف الفرنسية لخلافة فيون على رأس الحكومة، كما اختارتها صحيفة "فايننشال تايمز" كأفضل وزير مالية عام 2009؛ لأدائها في مواجهة أخطر أزمة عالمية بعد الحرب العالمية، وصنفتها مجلة "فوربس" الأميركية في المرتبة الـ17 للسيدات الأكثر نفوذاً في العالم. ورغم سجلها في مجال الإدارة المالية، فقد ووجه اختيارها لرئاسة صندوق النقد الدولي بانتقادات، منها ما يتعلق بالحساسيات الحزبية داخل فرنسا؛ إذ أثارت تسميتها كمرشحة من قبل ساركوزي حفيظة اليسار المفجوع بفضيحة دومينيك الذي كان مرشحه المحتمل والقوي في مواجهة ساركوزي. هذا إلى جانب "الطابع الأميركي" الذي توصف به الشقراء الطويلة التي كثيراً ما احتفت بها الصحافة الإنجلوسكسونية، فحين تم استدعاؤها من الولايات المتحدة عام 2005 لتتسلم حقيبة وزارية، كانت قد مرت عليها عشر سنوات هناك، ولم تكن معروفة للرأي العام الفرنسي. فمنذ سفرها الأول إلى الولايات المتحدة عام 1974، أصبحت تقضي جزءاً كبيراً من وقتها هناك، حيث درست في جامعة ميريلاند، ثم تدربت في مكتب النائب الديمقراطي و"يليام كوهين" الذي سيصبح فيما بعد وزيراً للدفاع في إدارة بيل كلينتون، هذا قبل أن تعود لتصبح مسؤولا قيادياً في مكتب Baker & McKenzie للمحاماة. كما يتهمون لاجارد، القادمة من عالم الأعمال وقلب النظام المالي العالمي، بالشطط اليميني في انتهاج سياسة اقتصادية متشددة إزاء الفئات الاجتماعية البسيطة، مقابل إغداق الدعم على كبريات الشركات ورجال الأعمال، مما أفقد خزينة الدولة الفرنسية 170 مليار يورو على شكل دعم مالي وإعفاءات جبائية عادت إلى جيوب الطبقات الأكثر ثراءً... فأطلقت عليها الصحف لقب "تاتشر الفرنسية". وإذا كان ستراوس قد ترك منصبه بسبب فضيحة منظورة أمام القضاء الأميركي، فإن لاجادر أيضاً ملاحقة بفضيحة (مالية) من المقرر أن تنظر فيها "محكمة الجمهورية" الفرنسية يوم الجمعة القادم. والتهمة الموجهة لها تتعلق بدفع تعويضات مالية مبالغ فيها لرجل الأعمال "برنار تابي" المقرب من ساركوزي، وإذا ما أدينت من قبل المحكمة فستضطر للاستقالة، مما سيجر انتكاسة أخرى لصورة فرنسا عبر العالم، والتي أراد ساركوزي إعادة تأهيلها من خلال الرمزية التي يمثلها وجود امرأة في خلافة ستراوس. أما الانتقادات الأخرى لتعيين لاجارد، فصدرت عن دول الاقتصادات الصاعدة، والتي أصبحت تعارض استئثار أوروبا بمنصب المدير العام للصندوق منذ تأسيسه، فهذا التقليد الذي أوجدته التوازنات الاقتصادية في نهاية الحرب الباردة، حدث بعدئذ من التغيرات في موازين القوة الاقتصادية العالمية ما يوجب إلغاءه. لكن لاجارد أكدت خلال زيارات قامت بها مؤخراً للصين والهند وروسيا والبرازيل، أن الصندوق "ليس ملكاً لأحد، وإنما هو ملك لكل الأعضاء البالغ عددهم 178 بلداً... ولن نستطيع تمثيل توازن القوى الاقتصادية في العالم تمثيلا فعالا إذا كانت هناك اقتصادات ناقصة التمثيل". ومعلوم أن الصندوق هو إحدى الوكالات المتخصصة للأمم المتحدة، وقد أنشأ عام 1945 للعمل على تعزيز سلامة الاقتصاد العالمي. لذلك فهو مؤسسة مركزية في النظام النقدي الدولي، أي نظام المدفوعات الدولية وأسعار صرف العملات، الذي يسمح بقيام المعاملات التجارية بين البلدان المختلفة. لكن ثمة شكاوى متواصلة حول هيمنة مجلس إدارة الصندوق المكون من 24 عضواً، والخاضع لمصالح الدول الكبرى. وفي مقر الصندوق بواشنطن، ينتظر لاجارد جدول أعمال مشحون بالقضايا والمعضلات؛ فالاقتصاد العالمي محاصر بأزمات الديون السيادية في أوروبا، والانتفاضات في الشرق الأوسط، وبوادر النشاط المحموم في بعض الاقتصادات سريعة النمو، وأسعار السلع الأولية المتصاعدة كتحدٍ للدول الفقيرة... وكلها مشكلات عويصة تضع "تاتشر الفرنسية" في امتحان أمام العالم، فهل تخرج من صندوقها الحلول! محمد ولد المنى