التريليون لمن يتساءل هو ألف مليار، والمليار هو ألف مليون، فالتريليون إذن هو ألف- ألف مليون. من كان يظن أن قرار بوش الابن بشن حرب على أفغانستان، وثانية على العراق، والحروب المفتوحة الأخرى وبلا خط أفق ونهاية على الإرهاب، من باكستان إلى اليمن، وصولاً اليوم للحرب في ليبيا، ستكلف الخزينة الأميركية كل هذه التكاليف الباهظة، وخاصة أن هذه الخزينة مفلسة أصلاً وتعتمد على الاستثمارات والقروض الصينية والدولية إلى درجة أن الميزانية الأميركية بلغت 3.82 تريليون دولار، 40% منها قروض، بعجز قياسي وصل إلى 1.6 تريليون دولار. كما وصل العجز العام إلى أرقام فلكية بلغت 14.5 تريليون دولار! أي 98% من مجمل الناتج القومي الأميركي، في دلالة على عمق معضلة الولايات المتحدة التي تحولها إلى عملاق بأقدام من صلصال. ويحتدم اليوم الصراع الشرس بين البيت الأبيض والكونجرس بقيادة "الجمهوريين" حول الميزانية والعجز وزيادة الضرائب على الأغنياء، كما يطالب أوباما و"الديمقراطيون" بخفض الإنفاق بما في ذلك الإنفاق العسكري وهو ما كان "الجمهوريون" يعارضونه، ويسعى للتوصل إلى اتفاق قبل نهاية الشهر الحالي لرفع سقف الدين العام، وإلا فستواجه أميركا، صاحبة أكبر اقتصاد في العالم، مصير اليونان المفلسة، وتغلق الحكومة أبوابها. هل يعقل أن يحدث هذا في أميركا؟! لقد كتبنا في هذه المساحة العديد من المقالات عن المأزق الأميركي، وأشرنا إلى أن كتاباً أميركيين جادين دقوا أجراس الإنذار تنبيهاً إلى حالة أميركا المتراجعة والمنسحبة وخاصة من الشرق الأوسط. وفي ظل خطب أوباما ومواقفه في خفض عديد القوات الأميركية، والانسحاب من العراق، وخطابه الأخير بشأن سحب 33 ألفاً من القوات الأميركية من أفغانستان بحلول سبتمبر 2012، قبل وقت قصير من الانتخابات. وهذا مما يؤكد الازدواجية بين أوباما الرئيس، وأوباما المرشح الذي يسعى للفوز بولاية ثانية. ولعل أكثر ما استوقفني في خطاب أوباما للأميركيين هو تبريره لخفض القوات العسكرية "لكي تهتم أميركا أكثر بالبناء هنا في الوطن". وكأن أوباما يقول للأميركيين، الذين يتململون من رئيسهم ونظامهم السياسي، إن النزيف البشري والمالي من حروب ومغامرات وبناء دول وأنظمة في الخارج بات مرهقاً ومكلفاً وما زال يُسبب صداعاً دائماً، وللسنة العاشرة، ولذا فإن علينا أن نعيد النظر في أولويات الأميركيين. يأتي ذلك كله بعد أن نشر "مركز إيزنهاور" في جامعة "براون" الأميركية دراسة مهمة هي الأحدث عن التكلفة البشرية والمالية لحروب أميركا، وقد أشرف على هذه الدراسة أكثر من عشرين من الأكاديميين الاقتصاديين وأساتذة العلوم السياسية. وقد أبرزت الدراسة كيف تنهك وترهق الحروب الميزانية الأميركية وتتركها خاوية. وكان كتاب "حرب الثلاثة مليارات دولار" قد صدر أيضاً عام 2008 عن تكلفة الحروب الأميركية الجارية. وتأتي هذه الدراسة الأخيرة لتصب في عكس الاتجاه العام لقرار بوش شن الحروب التي ورثها عنه أوباما. وليسأل معدو الدراسة: ما هي الفائدة التي جنتها أميركا من هذه الحروب؟ ولتناقض نتائجها أيضاً كلام أوباما في خطابه للشعب الأميركي عن بدء خفض القوات والانسحاب العسكري من أفغانستان التي كلف الالتزام فيها "تريليون دولار". وتؤكد الدراسة هذه الحديثة أن تكلفة حروب أميركا في أفغانستان المستمرة للسنة العاشرة، وعلى الإرهاب لنفس العدد من السنوات، هذا زيادة على ثمانية أعوام من حرب العراق، قد كلفت الخزينة الأميركية مبالغ خيالية في ظل أكبر أزمة مالية تضرب بلاد "العم سام" منذ الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي، لتقترب التكلفة الإجمالية من 4 تريليونات دولار! وهذا يشمل أيضاً التكلفة المتصاعدة لمعالجة جرحى الحروب الذين يتجاوزن ثلاثين ألفاً، وكثير منهم بحاجة إلى علاج صحي ونفسي مدى الحياة. وهذه التكلفة لا تشمل طبعاً فوائد القروض والفرص الضائعة بسبب الحرب. ولعل من اللافت أن الدراسة تأتي بأرقام منخفضة مقارنة مع ما اعتدنا قراءته عن التكلفة البشرية للحروب الأميركية في العراق وأفغانستان، حيث تؤكد أن عدد القتلى المدنيين في حروب العراق، وأفغانستان، وعلى الإرهاب، يتراوح بين 224 ألفاً و258 ألفاً، أكثر من نصفهم في العراق. وأن عدداً كبيراً من المدنيين قتلوا بطرق غير مباشرة بسبب نقص المياه الصالحة للشرب وغياب الرعاية الصحية والدواء والعلاج وعدم توفر الغذاء والطعام. وقدرت الدراسة التي صدرت نهاية الشهر الماضي عدد الجرحى في حروب أميركا بأكثر من 365 ألف جريح، وعدد المشردين واللاجئين بأكثر من 7.8 مليون لاجئ في هذه الدول، أو أكثر من عدد سكان ولايتي كونتيكيت وكنتاكي الأميركيتين. ومن أكثر ما كان ملفتاً أيضاً في هذه الدراسة الرصينة هو مقاربتها لأرقام تكلفة تفجيرات 11 سبتمبر 2001 البشرية والمالية، وخاصة أن تلك التفجيرات كانت هي المبرر والمسوغ أصلاً لخوض أميركا لحروبها الخارجية المكلفة والمرهقة. وفي هذا المقام تؤكد الدراسة أن تفجيرات 11 سبتمبر -التي اعترفت "القاعدة" بارتكابها بـ19 انتحاريّاً وبتكلفة نصف مليون دولار- أدت إلى مقتل 3000 أميركي، وتسببت في خسائر اقتصادية تقدر بخمسين مليار دولار، وفي حروب خارجية بقيمة تتجاوز 4 تريليونات دولار! ومقابل كل أميركي قتل في تفجيرات 11 سبتمبر 2001 قتل 73 شخصاً، في حروب أميركا التي شارك فيها 1.25 مليون جندي وعسكري أميركي. وحتى بعد عودة الجنود إلى أميركا ارتفعت أيضاً بينهم نسبة الانتحار والتفكك الأسري والقتل في حوادث السير. وفي المحصلة هناك مأثور أميركي يقول: "لو كنت أعلم حينها ما أعلمه الآن لما كنت قد أقدمت على ما قمت به". صحيح أن صدام وبن لادن قد قتلا، ولكن صحيح أيضاً أن أميركا ليست آمنة، وأنها مرهقة ومفلسة وغير محصنة من الاعتداءات، كما أن سمعتها تراجعت، والعراق وأفغانستان لم يصبحا المثالين اللذين يمكن لأميركا تقديمهما كنموذج لأنظمة مستقرة وديمقراطية وناجحة. وأكثر من هذا أن بعض خصوم أميركا من الدول في الشرق الأوسط يكسبون الآن الجولات بالنقاط ويكرسون الخلل في توازن القوى الإقليمي، فيما وصلت أميركا لحالة من التراجع والاستسلام لضغوط اللحظة، وبدأت تجنح لمحاورة خصومها والتفاوض معهم. والسؤال الذي يطرح نفسه: هذه التكلفة البشرية والمالية الباهظة، وتداعيات الحروب وما ترتب عليها من تغيير في موازين القوى، هل كانت أصلاً مبررة وتستحق ذلك العناء كله؟ لاشك أن الجواب الواقعي هو "لا" كبيرة، وكبيرة جدّاً!