ما يزال علماء السياسة والمؤرخون للشرق الأوسط الحديث يذكرون كتاب باتريك سيل "الصراع على سوريا" (1972). والعام المذكور هو عامُ صدور الكتاب، وقد كان أُطروحةً أشرف عليها ألبرت حوراني بسانت أنطوني بأوكسفورد، وكتبها مؤلِّفُها عن سوريا في خمسينيات القرن العشرين. وقد كانت سوريا في تلك الفترة ساحةً لصراعٍ بين محورين عربيين: المحور المصري السعودي، والمحور الهاشمي (العراق والأردن)، ومن ورائهما الطرفان الدوليان الرئيسيان في الحرب الباردة: الولايات المتحدة وحلفاؤها، والاتحاد السوفييتي. وعندما كتب "سيل" أُطروحته المذكورة كان الصراع قد حُسِمَ لصالح مصر عبد الناصر، وتفكَّك المحورُ المصريُّ مع السعودية، واختفى التحالُف الهاشمي، ثم ما عادت سوريا ساحةً، بل دخلت في الحضن الدولي السوفييتي، وصارت في عهد حافظ الأسد دولةً مركزيةً في المنطقة وعلى مدى عقودٍ أربعة. أما الساحات فتنقلت بين لبنان والعراق. وها هي سوريا وبعد تفاقُم الاضطراب في المنطقة العربية، تعودُ ساحةً لصراعٍ بين أطرافٍ جديدة، ويشاركُها في ذلك كلٌّ من العراق ولبنان وربما دول عربية أُخرى على مقربةٍ من سوريا أو في مبعدةٍ عنها. لقد تكاثرت المستجدات بعد كتاب سيل إذن. لكنّ الرجل كما راقب سوريا في تحولها إلى ساحة صراع، عاد فراقبها وقد صارت دولةً مركزيةً في المنطقة العربية والشرق أَوسطية، فأصدر عام 1986 كتابه الذي صار شهيراً مثل كتابه الأول، بعنوان "الرئيس حافظ الأسد والصراع على الشرق الأَوسط". لكنّ الشرق الأوسط في ثمانينيات القرن الماضي، لم تكن قد خرجت من الثنائيةُ الدولية للهيمنة والانقسام (الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي). لذلك بدا فيه ما حقّقه الرئيس السوري، في التنافُس مع عراق صدّام على الزعامة العربية، كما بدا فيه صيرورة سوريا ضامناً للاستقرار وشريكاً في صُنعه في لبنان كما في الصراع العربي الإسرائيلي. وكان لابُد من الانتظار حتى التسعينيات لتبدأ الصورةُ الجديدةُ لتكوُّن منطقة الشرق الأوسط ضمن العالم العربي والعالَم الأَوسع. فقد سقط الاتحاد السوفييتي، وازدادت الهيمنة الأميركية رسوخاً وانتشاراً، واعترف الأميركيون بشراكة الأسد في المنطقة. وحدثت اندفاعةٌ ومتغيراتٌ أُخرى في مطلع القرن الحادي والعشرين. إذ توفي حافظ الأسد، وقرر الأميركيون بعد هجمات 11 سبتمبر التدخل عسكرياً بشكلٍ مباشر. وتجلَّى ذلك في أفغانستان والعراق، كما تجلَّى في السحب التدريجي من جانبهم للتكليفات من سوريا في عهد الأسد الثاني وبالتوازي مع تصاعُد التوتُّر بين الأميركيين وإيران وحليفتها سوريا. كانت الوقائعُ الجاريةُ تُعيدُ تظهير صورةٍ جديدةٍ للمنطقة ترتكز على خمس دول: إيران، تركيا، إسرائيل، مصر، والسعودية. أمّا إيران فظهرت اهتماماتُها الاستراتيجية في المنطقة ليس من خلال نفوذها في سوريا ولبنان فقط؛ بل ومن خلال فَرْض نفسها في مناطق التدخل الأميركي في أفغانستان والعراق. ومنذ عام 2004 بدأت تركيا تُركِّزُ على تغييراتٍ في اهتماماتها الاستراتيجية، تتجاوزُ الملفَّ الكرديَّ العالقَ بينها وبين العراق وإيران. فقد عمل الأتراك على إقامة علاقاتٍ مع النظام السوري، اعتبرها الطرفان استراتيجية. وقد حفلت بمئات الاتفاقيات على مدى خمس سنوات، وبعشرات الزيارات المتبادلة بين كبار المسؤولين من الجانبين، بل بلغت من قوتها أنْ تدخلت تركيا في المفاوضات بين سوريا وإسرائيل. وكما دخلت تركيا على خريطة الحركة الإيرانية في سوريا، دخلت أيضاً على خريطة إيران في العراق وفي لبنان، وفي إقامة علاقات وثيقة مع حركات الإسلام السياسي بالمشرق، ومنها "حماس" بفلسطين، و"الإخوان المسلمون" بالأردن ومصر. لقد بدا لأول وهلةٍ أنّ استراتيجية أوغلو، وزير الخارجية التركي، والمسمّاة "صفر مشاكل" لا تُزعجُ أحداً، وعلى الخصوص لا تُزعجُ إيران. بل إنّ الأتراك بدوا على تشاوُرٍ دائمٍ مع الإيرانيين بشؤون العراق ولبنان والتوتُّر بين طهران والمجتمع الدولي على الملفّ النووي . فقد تدخلت تركيا والبرازيل معاً للتوسط بين إيران والمجتمع الدولي بشأن ذاك الملفّ. وما أظهر الإيرانيون انزعاجاً بارزاً إلاّ عندما حاولتْ تركيا التوصل إلى اتفاق سلامٍ بين سوريا وإسرائيل عام 2008. ويومَها أَنشب الإيرانيون النزاع من جديد بين "حماس" وإسرائيل فحدثت حرب غزّة، وانقطع التفاوُض الإسرائيلي السوري بوساطةٍ تركية. ثم جرى نسيانُ الموضوع أو تناسيه، وإن بقي الفتور لحين حدوث الثورات العربية، والتي رحَب بها الطرفان الإيراني والتركي وإن اختلفت الأهداف، إلى أن امتدّ الحراك الشعبي الثوري إلى سوريا الأسد، الحليفة الاستراتيجية الباقية لإيران ولربيبها "حزب الله" بلبنان. فالأتراك مَضوا قُدُماً في مطالبة النظام السوري بالتغيير؛ بينما أصرَّ الإيرانيون على أنّ مطالب التغيير بسوريا هي مؤامرةٌ على نظام الممُانعة القائم، ولها أبعادٌ أميركيةٌ وإسرائيلية. ومنذ شهرٍ ونصف بدأت اللهجة الإعلاميةُ الإيرانية والسورية تتغير إزاء تركيا. فقد تذكَّر الطرفان أنّ تركيا عضوٌ في التحالُف الأطلسي، كما تذكّر إعلاميو النظام السوري بدمشق ولبنان أنَّ تركيا تدعم الحركات الدينية بالداخل العربي ومنها "الإخوان المسلمون" السوريون. وترافق الإلحاح التركي على مطالب الإصلاح بسوريا في الإعلام والتصريحات وزيارات التواصُل والاستحثاث، مع تدخُّل إيران أمنياً ولوجستياً لمساعدة النظام في قمع حركة الاحتجاجات. وبلغ التأزُّم إحدى ذُراه في حالتين: الخلاف على التحركات الإيرانية في العراق، والخلاف على سلوك تركيا تُجاه لجوء آلاف السوريين إلى تركيا بعد وقعة جسر الشغور. فمن جهةٍ انعقد مؤتمرٌ للمعارضة السورية، ومن جهةٍ ثانيةٍ أقام الأتراك مخيماتٍ ضخمةً للاجئين السوريين، وأعلنوا أن بينهم عشرات من الجنود والضباط الكبار الذين رفضوا قمْع المتظاهرين من أبناء شعبهم. وخلال الأيام الأخيرة جرى ما لم يكن في الحسبان: فقد شجَّع الإيرانيون الجيش السوري على التمدد مع الحدود التركية، في مخالفةٍ للاتفاق بين الطرفين منذ عام 1997. وقد أعلن السوريون أنهم لا يقصدون إلى مخالفة الاتفاقيات مع تركيا؛ بل إيقاف حركة اللجوء، باعتبار أنّ هناك مطلوبين بين اللاجئين من جانب السلطات! إنّ البارزَ الآن أنّ الإيرانيين والسوريين يضغطون قمعاً واعتقالاً على الحركة الاحتجاجية بالداخل السوري، كما يضغطون على الداخل اللبناني من خلال تشكيل حكومةٍ ذات لونٍ واحدٍ لإزعاج أميركا وحلفائها كما قال الجنرال عون. أما الأتراك فينسّقون جهودهم للتغيير في سوريا مع الأطراف الدولية من جهة، ومع مصر والسعودية من جهةٍ ثانية. لقد عادت سوريا ساحةً للصراع بعد أنْ لم تَعُدْ كذلك منذ السبعينيات القرن الماضي. وكما ظهر الصراع بين تركيا وإيران في سوريا؛ فالمنتظر أن تبدو مظاهر منه في الأسابيع القادمة، في ملفاتٍ أُخرى، وبلدانٍ أُخرى.