زرتُ إسطنبول منذ أكثر من خمس سنوات وتلك كانت زيارتي الأولى والوحيدة لتركيا. أخرجتُ يومها زفرة حارة من صدري وأنا أمشي في أروقة مطارها المتطوّر، وأقارن في سرّي بينه وبين مطار مدينتي جدة الذي يشبه مطارات الدول الفقيرة التي تعيش على المنح والمعونات الخارجية، لرداءة مبناه ونقص خدماته وبدائيّة تصميمه، رغم الميزانية المالية الضخمة التي رُصدت له عند إنشائه! حرصتُ أثناء فترة إقامتي القصيرة على زيارة المواقع الأثرية، وبدأتُ بجامع السلطان أحمد الذائع الصيت الذي يُطلق عليه الجامع الأزرق، لما يتصف به من فن معماري رفيع بسقوفه البديعة ومآذنه الستة الجميلة. وحرصتُ كذلك على زيارة المتحف الشهير "آيا صوفيا"، الذي يقع مقابل المسجد لاحتوائه على الكثير من الآثار الإسلامية النفيسة. حمدتُ الله على أن الكثير من الآثار الإسلامية التي حملها العثمانيون معهم إلى تركيا إبان حكمهم للعالم العربي بقيت هناك، وإلا انتهى مصيرها إلى الزوال مع ارتفاع نبرة التطرف الديني في أغلبية بلداننا العربية وانتشار فتاوى عدد من مشايخ الدين بوجوب تدمير هذه الآثار كونها بدعة وضلالة! ظلّ العالم العربي والإسلامي ينظر بحذر إلى الأتراك أحفاد العثمانيين على أنهم كانوا عاملاً أساسيّاً في عدم التحاق العالم العربي بركب الحضارة الغربية، بسبب العزلة التي فرضوها على العالم العربي حسب ماهو مدوّن في مناهجنا التاريخيّة، هذا على الرغم من أن هناك مؤرخين يرون بأن العثمانيين كان لهم فضل كبير في حماية العالم العربي من الأطماع الغربية! وعلى الرغم من هذه الأقاويل المتناثرة، فإن العثمانيين الذين استمر حكمهم للعالم العربي لأكثر من أربعمائة سنة، فشلوا في تتريك البلاد العربية. ويُجمع المؤرخون على أن تأثيرهم الثقافي كان محدوداً، وأن الأتراك هم من تأثروا بثقافة وتراث العرب الفكري. لا أريد الخوض في ذكريات الماضي، وما يُعنيني هنا هو شكل تركيا الحديثة التي تأسست على يد كمال أتاتورك، الذي وضع بلاده على أول الطريق لتكون دولة عصرية، بعد أن خلع عنها ثوبها القديم، وألبسها حلّة جديدة تليق بتاريخها الطويل. في الأمس القريب، أذهلت ماليزيا العالم بأسره حين غدت في مقدمة الدول المتحضرة بفضل رئيس وزرائها الأسبق مهاتير محمد، الذي وضع مجموعة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية وعلى رأسها محاربة الفساد المالي والإداري والقيام بثورة تعليمية لإيمانه بدور التعليم في بناء عقول الأجيال الجديدة. اليوم تركيا هي الأخرى جعلت العالم يفغر فاه مندهشاً من قوتها الإقليمية، وهذا لم يأتِ من فراغ! فصل الدين عن الدولة كان من أهم مبادئ تركيا الحديثة، إضافة إلى تحالف كافة الأحزاب على تباينها من أجل مصلحة وطنهم. ويُقال بأن الفاتيكان الذي عارض سرّاً انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي بسبب تاريخ أجدادها، لم يعد يُشكّل قلقاً أمام تركيا لنجاحها في الوقوف في مصاف الدول القوية اقتصاديّا. فوز حزب "العدالة والتنمية" للمرة الثالثة على التوالي في تركيا، يُبيّن بأن هناك تحالفاً قوياً بين كافة الأحزاب، وأن الديمقراطية ورفع شعار الحريات العامة وحق الشعب في انتخابات حرة نزيهة وتمكين المعارضة من ممارسة حقّها كحزب سياسي، يُرسل رسالة قوية للعالم العربي المتورّط حتى أذنيه في رفع الصوت الأوحد المتمثّل في الحزب الإسلامي وإقصاء بقية الأحزاب الأخرى! الحل ليس في إقامة إمارات إسلامية تُدير شؤون مجتمعاتها من فوق المنابر! وإنما أوطاننا بحاجة إلى خلق توازن عقلاني بين تعاليم الدين وبين ممارسة الحياة البرلمانية بصورتها المتحضرة حتّى لا نعيش في معزل عن العالم!