أخيراً صدر القرار الظني عن المحكمة الخاصة بلبنان، في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه. كان منتظراً منذ أشهر وقبل سقوط حكومة الرئيس سعد الحريري الذي سمّوه "وليّ الدم". قيل يومها أنه تأجل صدوره في انتظار نتائج الحركة المشتركة السورية – السعودية التي عرفت بـ الـ "س.س". وقيل إن التأجيل تم من سبتمبر الماضي إلى مارس إفساحاً في المجال أمام مساعي التسوية الشاملة. سقطت التسوية، حيث أُخرج سعد الحريري من رئاسة الحكومة، ودخل لبنان مرحلة جديدة. أعطيت في الإعلام مواعيد كثيرة لصدور القرار على وقع محاولات تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة نجيب ميقاتي. تعثر قرار تشكيل الحكومة. فتأخر قرار المحكمة. فجأة تم تشكيل الحكومة. فجأة صدر قرار المحكمة، أثناء إقرار البيان الوزاري الذي شهد البند المتعلق بالمحكمة فيه تجاذبات كثيرة إلى أن كانت التسوية بالصيغة النهائية التي وردت فيه. وفي معزل عن التوقيت وخلفياته، صدر القرار. لم يحمل جديداً لناحية الاتهامات، فعلى مدى أشهر طويلة سابقة تم تسريب الكثير من المعلومات عن الجريمة "ومنفذيها" حتى بات كل شيء معروفاً. ولذلك لم يكن ثمة صدمة استثنائية، ولم يكن وقع القرار قوياً استثنائياً. لأنه تم وعبر الإعلام "تبليع" اللبنانيين المعلومات المنوي نشرها – آنذاك – على دفعات. فجاءت على دفعات ومثل الجرعات المتتالية. إلا أن الظروف العامة التي يعيشها الواقع اللبناني اليوم هي أكثر خطورة من السابق عندما بدأ تمرير الجرعات. الحكومة كانت حكومة وحدة وطنية ولو نظرياً. سعد الحريري كان رئيس الحكومة. سعد الحريري كان عنوان وأساس التسوية، ومعه فريق كبير من اللبنانيين من "أولياء الدم"، أو من المؤيدين والمناصرين. داخل الطائفة السُنية الكريمة، وعلى المستوى الوطني اللبناني، مع ما لهذا العنوان من امتدادات عربية ودولية! ومع ذلك كان الخوف قائماً من احتمال عدم التوصل إلى تسوية وبلغت التحديات ذروتها وتعطلت الحكومة ثم أقيلت بسببها! والوضع العربي اليوم من سوريا إلى ليبيا مروراً بالخليج واليمن وتونس ومصر هو غير ما كان عليه، نجد فيه معادلات جديدة، كما أن "س.س"، أصبحت محطة في أرشيف الأحداث اللبنانية ومحاولات حلها. الوضع الداخلي زاد انقساماً وتشنجاً وحدة وحقداً. والقطيعة أعمق وأخطر مما كانت عليه، والقلق أكبر، والتحدي أكبر. في هذا التوقيت، جاء صدور القرار الظني. والهواجس قبل صدوره كانت لدى الطرفين الأساسيين، اللذين كان التحذير الدائم من خطأ وخطر انزلاقهما إلى الفتنة. فولي الدم الأساسي والمسؤول والمعني الأول من مواقع عديدة هو سعد الحريري الزعيم الأكبر للطائفة السُنية الكبرى الكريمة. والاتهامات موجهة إلى عناصر في "حزب الله" العمود الفقري الأساسي القوي للطائفة الشيعية الكبرى الكريمة ومع كل منهما أنصار أو أصدقاء أو حلفاء من هنا وهناك. الفريق الأول، لديه هاجس معرفة الحقيقة وهو محق. ولا يتحمل المرور على جريمة مثل جريمة اغتيال الرمز الكبير الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ورفاقه وسائر الشهداء من القادة السياسيين والمفكرين والأمنيين الكبار والشرفاء وهو ينتظر موقفاً وقراراً من المحكمة التي أنشئت من أجل الحقيقة والعدالة. والفريق الثاني لا يحتمل الاتهام باغتيال هذا الرمز. معادلة البحث عن التسوية قامت على أساس تفهم هواجس الفريقين. التسوية سقطت والهواجس زادت. القرار صدر والهواجس تعمقت حول ما يمكن أن يستجد... ودخلنا في مرحلة جديدة. خرج القرار وخرجت معه تحليلات وتأويلات ومطالبات كثيرة. المهم ألا يخرج لبنان من دائرة الاستقرار. كان هذا ولا يزال هاجس كثيرين من اللبنانيين الموجودين في بيئات سياسية مختلفة، لأن حصول ذلك في مثل هذه الظروف الداخلية والمحيطة يشكل الخطر الأكبر على العدالة والاستمرار في البحث عن الحقيقة وتثبيتها، لأن الاتهامات التي صدرت تبقى اتهامات، كما قال الجميع إلى أن يتم تثبيتها، ومن الآن وإلى ذلك الحين، لبنان معرّض لشتى أنواع الاحتمالات السلبية والخطيرة. أي كلام عن الاستقرار لا يعني استخفافاً بالقرار أو تجاوزاً له، بل ينبغي التأكيد على ما أعلن من قبل كل الذين أرادوا المحكمة منذ البداية: "نريد محكمة للحقيقة والعدالة. لا نريدها للثأر والانتقام"! وأبلغ ما قيل لاحقاً وفي حمأة الصراع والخلاف جاء على لسان ولي الدم الرئيس سعد الحريري وعندما أعلن: "لن يكون دم رفيق الحريري سبباً للفتنة". وعلى هذا الأساس ينبغي أن يكون التعاطي اليوم. وهو تعاطٍ أصعب لأن الحكومة الجديدة بظروف وطبيعة تكوينها ليست عامل ارتياح لدى فريق كبير من اللبنانيين. على ممارساتها وموقفها وطريقة تعاطيها يتوقف كثير من النتائج والأمور. هي تتحمل مسؤولية كبيرة في مقاربتها لكل الشؤون وستواجه تحديات كبيرة. ومهما كانت إرادتها طيبة ونواياها جيدة، فإن النتائج لا تتوقف على الإرادة فقط، بل على الإدارة. إذا كانت إدارتها خاطئة - كما تعبّر عن ذلك نوايا أو تصرفات بعض المشاركين فيها - فإننا ذاهبون بالتأكيد إلى مشكلة كبيرة سواء على مستوى التعاطي مع المحكمة أو غيرها من القضايا، مع العلم أن موضوع المحكمة سيبقى اليوم الموضوع الأساس الذي يسيطر على ساحة الأحداث في لبنان مع ما له من ارتدادات وامتدادات في الخارج، وهو عنصر من عناصر "البازار" الذي أشرنا إليه سابقاً في مقاربتنا لـ "زنار النار" الذي يحيط بالمنطقة. والمعارضة الجديدة، هي أيضاً مسؤولة عما تؤول إليه الأمور، ليس صحيحاً أنها غير معنية، وأن الحكومة وحدها تتحمل المسؤولية. المعارضة معنية بالاستقرار وبكيفية التعاطي مع القرار الظني أو بطريقة الظن والتعاطي مع الشعارات الأخرى. لقد أخرج رفيق الحريري من الحكم وبطريقة بشعة. وتعرض لابتزازات كثيرة قبل إخراجه من الحكم. كان في كل الحالات لبنانياً صادقاً ورجلاً كبيراً مدركاً توازنات البلاد، وتشابكات الأحداث والمصالح فيه وعلى أرضه وكان عنوانه الدائم الاستقرار. ودفع أثماناً كبيرة من أجل لبنان وآخر ما دفعه دمه. نفتقده اليوم كما كل يوم. ونستحضره مع قرار المحكمة. نفتقده رمزاً للحقيقة والعدالة وعنصراً كبيراً من عناصر الاستقرار حيث هو. حيث هو في ضريحه المجلّل بالورود البيضاء وحوله رفاقه، قلبه أبيض. وقراره أبيض. ليس فيه إلا استقرار لبنان. لم يحمل حقداً ولا ضغينة. بل كان رجل التسوية في بلد التسويات. نفتقده اليوم. لتتلاق إراداتنا في كل مواقفنا وفاء لدمه وحرصاً على العدالة والاستقرار معاً...