انطلقت خلال الأشهر الستة الماضية ثلاث محطات إذاعة خاصة في المملكة العربية السعودية، وانضمّت إلى إذاعة رابعة كانت مهيمنة على السوق المحلي لأكثر من عقد من الزمن. واستبشر كثيرون خيراً بهذه المحطّات الإذاعية، ومع أنها قنوات (FM)، وبالتالي لا تُسمع إلا داخل المدن، إلا أنها قدّمت بديلاً مميزاً ومنافساً للمحطات الرسمية. ووجدنا أنّ المحطات الرسمية بدأت تُقلِّد المحطات التجارية وتحاول أن تُجاريها في تواصلها المستمر مع المُستمعين، وتقديم ما يروق لهم من برامج وأغانٍ ومنوعات تجذب آذان المستمع إليها. وسعِد المُستمع بوجود مثل هذه المحطات الجديدة التي فتحت أبوابها لمذيعين شباب قادرين على التقاط الرغبات الشبابية المتنوعة والمتعددة. ونجحت هذه المحطات في أن تفرض نفسها على الساحة الإعلامية، فركّزت اهتمامها على ما يهمّ الشباب من موسيقى ورياضة وبرامج تهتم بكل ما هو جديد في تقنيات الكمبيوتر والهاتف المحمول وغيرها. وإن كنت أتمنّى أيضاً أن تهتم هذه المحطات بتقديم برامج خاصة موجهة الى المستهلكين مثل إصلاح السيارات، والمتاعب التي يواجهها الفرد حين يحاول إصلاح خطأ فني في هذه السيارات، وأن تكون للميكانيكيين الأكفاء مكانة على موجات الإذاعة المحلية. غير أنّ ما أثار اهتمامي حقاً في هذه المحطات هو تركيزها على البُعد المحلِّي، فأصبحت بحقّ لسان حال كل مواطن يعاني من مشكلة إدارية، أو قانونية، بحيث يتصدّى المذيع المختص في هذه القنوات الإذاعية للتواصل مباشرة مع الإدارات الحكومية والتعقيب هاتفيّاً على مشاكل هؤلاء المواطنين، ومحاولة إيجاد حل لها. وبمعنى آخر، فقد أصبحت هذه المحطات وسيطاً بين المواطن والمسؤول، وأداة للضغط على الأجهزة الحكومية حتى تجد حلاً لمشكلة معيّنة، ضاقت السبل بصاحبها ولم يجد لها سبيلًا إلا الاستنجاد بتلك المحطة الإذاعية. وهذا بحق جهد مشكور تقوم به هذه المحطات لكسب ثقة المواطن والمُستمع، بحيث تصبح لسانه في طرح مشاكله، بقدر كونها أداة للمتعة والاسترخاء، والتزوّد بأخبار كل ما هو جديد. وربما يكمن نجاح هذه البرامج الوسيطة في كون مذيعيها مستقلين استقلالاً كاملاً عن أي سلطة حكومية، وبالتالي قادرين على التعامل مع تلك السلطات والإدارات بشكل حيادي، ومن خارج المنظومة. ولا يحاولون إيجاد مخارج للمشاكل والعثرات التي قد تعاني منها بعض الأجهزة الحكومية، وإن ظهرت حالات معيّنة من المجاملات في بعض الأحايين. ومع أهمية العمل الذي تقوم به هذه المحطات، والأمل باستدامة نشاطها وجهدها الحالي، إلا أنّ هناك حاجة حقيقية لإيجاد وسائل سريعة وعاجلة بديلة للوسائل القديمة. ويبدو أنّ معظم الأجهزة الحكومية تستطيع تفعيل ما يُسمّى بإدارات العلاقات العامة فيها إلى إدارات تتلمس في الواقع حاجات المواطنين وتحاول إيجاد حلول لمشاكلهم، عبر الهاتف ومواقع التواصل الاجتماعي بالإنترنت كالفيسبوك، وغيرها من وسائل التواصل الحالي السريع بين الناس، التي أصبحت رخيصة وفي متناول اليد. ومثل ذلك ينطبق على الشركات التي تقدِّم خدمات عامة مثل شركات الهاتف والكهرباء والماء والخدمات البلدية والصحيّة وغيرها. وحين كُنّا نُدرِّس العلوم السياسية، كنا نضرب مثلاً لطلابنا بنظام (Ombudsman) الذي كان منتشراً في البلدان الاسكندنافية، مثل السويد، وكان فاعلاً في تواصل المواطن بالجهات الحكومية المسؤولة عن خدمته. وهو في بعض البلدان مربوط بالهيئة التشريعية، وفي بلدان أخرى بالهيئة التنفيذية. وحين عدت لأبحث هذا الموضوع مجدداً، فوجئت بالعدد الكبير من الدول التي أصبحت تتبنّى مثل هذا التنظيم. وهناك نحو ست وخمسين دولة ومنظّمة إقليمية تتبنّى حاليّاً مثل هذا النظام، ومنها دول إسلامية كباكستان التي تسمّيه "نظام المحتسب"، أو الحسبة. وتشير بعض المقالات إلى أنّ القانون الذي وضعه الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، في نظام "قاضي القضاة" يُعدّ من الأمثلة الأولى في هذا المجال. علمًا بأنّ كلاً من الحضارات الرومانية والصينية والكورية وغيرها قد عرفت مثل هذا النظام أيضاً. وفي الوقت الحاضر، تقوم الحكومة الكندية على المستوى الفيدرالي، وكذلك على مستوى الحكومات المحلية في الأقاليم والمقاطعات، بتبنِّي مثل هذا النظام. بل إنّ وزارة الخارجية الكندية قد كرّست رقم هاتف ساخن يمكن بموجبه لأي مواطن كندي يعاني من أي مشكلة في أي مكان من العالم، وعلى مدار الساعة، ليلاً أو نهاراً، الاتصال بهذا الخط وطلب المساعدة. ولهذا، فإنّ من واجب الأجهزة الحكومية السعودية، وفي دول الخليج العربية الأخرى، أن تأخذ بمثل هذا التنظيم لتصبح قريبة جدّاً من مواطنيها ومن تلمُّس المصاعب التي قد تعوق حياتهم، ومن ثمّ إيجاد حلول ناجعة لمثل هذه المشاكل. وعلى مجالس الشورى وغيرها من المجالس الوطنية وضع جهاز خاص وفاعل معروف لدى العامة والخاصة، وأرقام هاتفية، يمكن عن طريقها أن يتصل أي مواطن بهذا المجلس، أو بأحد من أعضائه لطلب العون لحل المشاكل التي قد تعترضه في تعامله مع الأجهزة والإدارات المحلِّية، والله من وراء القصد.